القس رأفت رؤوف الجاولي
معروف يقينًا أن الهوية هي أهم ما يسعي إليه كل إنسان وهي ما يؤدي إلى الرضا عن الحياة ما دام هناك انتماء واستمتاع بنوع من الحياة التي يحلم بها الفرد، وذلك يتحقق بالطبع في حاله تحقيق الهوية، أو على العكس تحدث حالة من عدم الرضا في حالة عدم تحقيقها. وقد تتضارب الأفكار مسيحيًا حول طبيعة “الهوية” وكيف نتمتع بها. ويمكن مناقشة هذا الموضوع من خلال ما يلي:
أولًا: مفهوم الهوية مسيحيًا:
من المؤسف أن المفهوم المسيحي للهوية في أذهان الكثيرين هو مفهوم غير واضح وغير محدد، بينما الرسول بولس يقول لكل مؤمن: هويتك أي مصدر انتمائك وجذورك هي ليست في أفكار روحية ولا في هوية ثقافية أو أسرة من حسب أو نسب، بل الهوية في كلمة واحدة ومعني واحد بل شخص واحد هو شخص “المسيح”، والتعبير المحبب هو “في المسيح”. وفيما يلي آيات محورية لرسالة فيلبي (كنموذج لإعلان الهوية الحقيقية) وكلها تدور في إطار التركيز على “المسيح”. نقرأ في (في 1: 1 و2): “بُولُسُ وَتِيمُوثَاوُسُ عَبْدَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، إِلَى جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، الَّذِينَ فِي فِيلِبِّي.”
في المسيح: تعبير خاص ببولس الرسول يشير للاتحاد بالمسيح والثبات فيه، ويُدعم هذا المفهوم بالنعمة، فهي إشارة لكل البركات التي تمتعنا بها في تجسد المسيح وفدائه. وبولس تعوَّد على استعمال هذه التحية ليشير أن المسيح للجميع (يهودًا ويونانيين). وفي المسيح وحدة ننال النعمة من الآب كهبة مجانية لخلاصنا فنتمتع بالسلام كنتيجة للخلاص وإتمام المصالحة. (في 1: 21) “لأن لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح.” وهناك آيات أخرى في رسالة فيلبي تدعم الارتباط العميق بالمسيح مثل:) في 3: 7؛ 4:4 و6-7 و13).
ثانيًا: كيف تعامل بولس مع مأزق الهوية (1 كو 4: 1-5)؟
الرسول بولس كان في مأزق شديد مع كنيسة كورنثوس، حيث استهانوا به وشككوا في رسوليته، فكانت هذه هي الفرصة السانحة لبولس ليُظهِر مَنْ هو وكيف تتشكل هويته فما يعنيه ويرجوه ويعيش وهو “المسيح” نفسه له كل المجد والكرامة والرياسة والسلطان. “هكذا فليحسبنا الإنسان كخدام المسيح، ووكلاء سرائر الله ثم يسأل في الوكلاء لكي يوجد الإنسان أمينًا وأما أنا فأقل شيء عندي أن يُحكم في منكم، أو من يوم بشر. بل لستُ أحكم في نفسي أيضًا فإني لستُ أشعر بشيء في ذاتي. لكنني لست بذلك مبررًا. ولكن الذي يحكم في هو الرب. إذًا لا تحكموا في شيء قبل الوقت حتى يأتي الرب الذي سينير خفايا الظلام ويُظهِر آراء القلوب. وحينئذ يكون المدح لكل واحد من الله”. وتجدر الإشارة إلى (في 1: 21) “لأن لي الحياة هي المسيح، والموت هو ربح.”
فالنظرة المسيحية للحياة هي أنها بركة وتستحق أن تُعاش ما دامت مع المسيح، فلنمت معه لنحيا معه. ليكن هذا فينا كتدريبٍ يوميٍ وميلٍ نحو الموت، بهذا ننفصل عن الملذات الجسدية والشهوات الأرضية. وعندما يقول بولس: “فالحياة عندي هي المسيح”، يصرخ أنه نقى نفسه من كل ما هو بعيد عن المسيح كالسرور، والحزن، والكبرياء، والحسد، والانتقام، وحب التملك، أو أية عادة قد تؤدي إلى تخريب النفس. هو وحده الذي يملأ نفسي. لقد نزعتُ عني كل طبيعتي الخارجية الظاهرة، ولم يبقَ بداخلي أي شيء غير المسيح.
وكما ذكرنا في المقدمة بأنه معروف يقينًا أن الهوية هي أهم ما يسعى إليه كل إنسان وهي ما يؤدي إلى الرضا عن الحياة مادام هناك انتماء واستمتاع بنوع من الحياة التي يحلم بها الفرد، وذلك يتحقق بالطبع في حالة تحقيق الهوية، أو على العكس تحدث حالة من عدم الرضا في حالة عدم تحقيقها. لذا بناءً على ذلك، فإن المقياس الذي تقاس عليه مدى تحقيق الهوية أو عدمها هام للغاية والمقياس هو دائمًا وأبدًا الانتماء للمسيح.
ثالثًا: كيف نتعامل نحن مع مأزق الهوية؟
كيف نثبت هويتنا وكيف نواجه تحدي إثبات هويتنا المسيحية أمام كل التحديات والعالم الشرير؟ ببساطة لن نفعل أي شيء إن لم نفهم معناها كما سبق ذكره “المسيح” و”المسيح وحده” هو الهوية هو الانتماء وهو المصدر لكل شيء يمكن أن نعيش به وله الآن. وفيما يلي نستعرض الإثبات الخاطئ للهوية والاتكال على أمور تسحبنا بعيدًا عن التركيز في “المسيح وحده”:
1-الإنجاز
فالمقياس الخاطئ تمامًا هو أن يبني الفرد (المؤمن) تحقيق هويته على الانجاز، وهو أمر شائع، لذا أصبح عاديًا جدًا أن يحدث التفاخر بكم الإنجاز في الخدمة وما يسمى “الخبرة في الخدمة”. في كل يوم في المسيح هناك خبرة جديدة تمامًا. نعم، هناك بعض المعرفة التراكمية عبر السنين في مجال أو آخر في الخدمة، لكن لا حدود لهذه المعرفة أو الخبرة أبدًا، فكل مؤمن إن بنى تحقيق هويته على إنجاز ما مهما كان روحيًا فإنه يعيش حياة روحية مهتزة غير مستقرة. وللأسف هذا أمر شائع، فقد يعتقد خادم أنه إذا قام بخدمة ما وحقق فيها نجاح فإنه بذلك قد أشبع هويته، والعكس صحيح؛ فإن تعثر في خدمته لأي سبب فإنه يشعر بانهيار لأنه يعتقد أنه قد فقد هويته. ومن هنا أصبح يطلق على خدمة ما أنها كبيرة وأخرى صغيرة، حيث الخدمة الكبيرة هي التي تحقق هويتهم (بالنسبة لأصحاب النظرة الخاطئة للهوية)، والصغيرة هي التي لا تحقق هويتهم. فخدمة المنابر ولاسيما الوعظ صارت الإنجاز الأعظم، بينما يقول الرسول بطرس: “إن كان يتكلم أحد فكأقوال الله. وإِن كان يخدم أحدٌ فكأنه من قوة يمنحها الله، لكي يتمجد الله في كل شيءٍ بيسوع المسيحِ، الذي له المجد والسلطان إِلى أبد الآبدين. آمين” (1 بط 4: 11).
2- الشهادات والألقاب
مع كل التقدير لكل شهادة وكل علم يؤهل لمزيد من الاستخدام الإلهي لا لمزيد من الإحساس بالهوية أو المكانة. فمن يعتقد أن الدراسات اللاهوتية وحدها هي مصدر هويته أانه قد أصبح لديه العلم الغزير إنما هو واهم تمامًا، فعلوم اللاهوت مليئة بالكثير من الأفكار والمدارس ولا يمكن حصر هذه الدراسات أو حدها أبدًا. ولذا مع الأسف قد يبدأ بعض الدارسين للدراسات اللاهوتية (حتى مَنْ يدرسونها فقط كمعرفة وليس بقصد التفرغ كقسوس) في الإحساس بالعلو والتفاخر. وكم من كنائس عندما التحق بعض خدامها بنوع من الدراسات اللاهوتية إذا بهم يتعاملون بنوع من الإحساس بالمكانة والتقليل من شأن خادم الرب الذي أفنى نفسه في الخدمة في هذه الكنيسة أو تلك. يقول الرسول بولس: “العلم ينفخ، ولكن المحبة تبْني (1 كو 8: 1). فالعلم الخالي من المحبة يصبح بلا قيمة، فهو يملأ النفس كبرياء، ولكن المحبة تبني حيث تبني الإنسان ليحيا ويرتفع سماويًا، وكل يوم يعرف عن الله أكثر ويدخل إلى أعماق أكثر. ومَنْ له العلم والمحبة يبني الآخرين في علاقتهم بالله. ومعرفة دون محبة تقود للكبرياء مما يخرب علاقتنا بالله وبإخوتنا.
3- الكنائس والمقارنة بينها
وأنا سأشير هنا لمجال الكنائس الإنجيلية. هناك كنائس على سبيل المثال في القاهرة تُعد كنائس كبرى (كبيرة)، سواء في العدد أو في الخدمات المختلفة التي تقوم بها. وبالطبع كل الاحترام والتقدير للخدمة بها وفي كل الكنائس الإنجيلية الأخرى، إلا أنه بسبب شهرة هذه الكنائس الكبرى فإن هناك شباب تركوا الكنائس الصغيرة وذهبوا لها حيث شعروا ببرستيج التواجد في الكنيسة الكبرى، فحسب هذا الاعتقاد المريض: إن الانتماء لكنيسة كبرى إنما يحقق هويتهم ويُشعِرهم بشيء من المكانة والفخر. وأتساءل بألم شديد: أي فخر هذا أن تترك كنيسة تحتاج إلى خدمة وبذل وعطاء للذهاب إلى مَنْ يبحثون عن الأضواء مع أنهم فعليًا يفقدون خدمتهم وسط المجتمع الواسع؟ أليس الأفضل لهم أن يستمروا في مواقعهم في الخدمة في الكنائس الصغيرة بدلًا من أن ينتقلوا إلى مقاعد المتفرجين في الكنائس الكبيرة؟!!!
4- الفضائيات واليوتيوب
كل ميديا قد تكون مباركة ومثمرة إن استُخدمت لمجد المسيح وحده. لكن العدد الكبير من الفضائيات واليوتيوب (وإن كان عددها أقل) خلق نوعًا من التشتيت، وبشكل ما أو بآخر عدد كبير من هذه القنوات قدم إيمانًا مسيحيًا سطحيًا. هذا بالإضافة إلى إحساس البعض ممن يتكلمون في الفضائيات بالمكانة والذات وبأن لهم شهرة كبيرة وأن الناس تتكالب لتشاهد برامجهم. منذ فترة قصيرة، اتصل بي أحد الأحباء وطلب مني أن أنضم إلى مجلس إدارة إحدى القنوات فاعتذرتُ شاكرًا، حيث إنني لا أرى أي جدوى من زيادة عدد هذه القنوات، وأرى أن الناس قد لا يقبلون على حضور بعض اجتماعات الكنائس بسبب أنهم حسب فهمهم يسمعون خدامًا أفضل على الفضائيات. هل يمكن أن ينصلح هذا المسار ويزداد النضوج الروحي ممن يعملون في مثل هذه القنوات؟
أخيرًا: “لي الحياة هي المسيح”، فالرسول بولس وكأنه يقول: بالنسبة لي الحياة ليست غنى ولا معرفة ولا شهرة ولا كرامة زمنية. بل المسيح، هو الأول والطريق والنهاية بالنسبة لي. إن كل الرأس سقيم حيث تاه الفكر وشرد كثيرًا عن الهوية الحقيقية وإعلان مجد المسيح بكل وضوح. ألم يقل الله بكل وضوح: “مجدي لا أعطيه لآخر” (إش 42: 8).