الدكتور فريز صموئيل
لقد كتب في أسفار العهد الجديد عن حياة المسيح، في إنجيل متى نجد في الاصحاحين الأولين قصة ميلاده (مت١، ٢)، ومجئ المجوس من الشرق وسجودهم له (مت٢: ١-١٢)، ثم قرار هيرودس بقتل أطفال بيت لحم، وهروب يوسف ومريم والطفل يسوع إلى مصر، ثم العودة إلى الناصرة بعد موت هيرودس (مت٢: ١٤-٢٧).
وفي إنجيل لوقا نجد قصة الميلاد والختان (لو٢: ٢١)، والعودة إلى الناصرة (لو٢: ٣٩-٥١)، وحوار المسيح مع الكهنة في الهيكل عندما كان في الثانية عشرة من عمره (لو٢: ٤٦ – ٤٧ )، ثم بدء كرازته و عمره نحو ثلاثين سنة (لو٣: ٢٣).
أما بقية أسفار العهد الجديد. فلم تسجل لنا شيئًا عن طفولية المسيح، والفترة من الثانية عشرة حتى الثلاثين من عمره، وهنا يتساءل البعض لماذا صمت الكتاب المقدس عن هذه الفترة؟ والجواب: إن كتبة أسفار العهد الجديد لم يكن هدفهم أن يسجلوا لنا قصة كاملة عن تفاصيل حياة المسيح، لذلك لم يدونوا سيرة شخصية للمسيح بمفهوم اليوم، ولكن كان هدفهم أن يقدموا لنا المسيح المخلص، الذي جاء ليموت فداءً عن البشرية.
وما ذكروه من تفاصيل تتعلق بحياة المسيح الانسانية على الأرض كان له علاقة بهذا الهدف وقد إستغل بعد الأشخاص ذي الخيال الجامح، ولأهداف لها مراميها غير البحث عن الحقيقة هذا و نادوا بمزاعم خيالية حول أين قضى المسيح الفترة من الثانية عشرة إلى الثلاثين من عمره، و مما قالوه:
١- أن المسيح ذهب إلى الهند، وقضى هذه الفترة في أحد الأديرة البوذية وهناك كتب الإنجيل، ومن إبتدع هذه النظرية هو الكاتب الروسي “نقولا نوتوفيتش” في كتابه “حياة المسيح المجهولة ” سنة ١٨٩٤م. و ذه المقولة غير صحيحة لأنه:
– لا يوجد أي كتاب هندي ما يؤيدها.
– الكتابات اليهودية لا تثبتها، فقد جاء في أسفار العهد القديم أكثر من ٣٠٠ نبوة عن المسيح، ولم يأت في أي نبوة ذكر لهذه الرحلة المزعومة، ولم يذكرها التلمود أو المؤرخين اليهود مثل يوسيفوس.
– كتبة أسفار العهد الجديد لم يذكروا لنا ذلك، ولو كان المسيح قد ذهب إلى هناك فما الذي يمنعهم من ذكر ذلك، وقد ذكر لنا البشير متى ذهاب المسيح إلى مصر، فلماذا ذكر هذا وأهمل تلك؟
– والسؤال الأهم ما الذي يدعو المسيح للذهاب إلى الهند؟ هل كانت تعوزه حكمة أو تنقصه معرفة، وهو عندما كان في لثانية عشرة حاور معلمي اليهود ” فبهتوا من فهمه و أجوبته” (لو2: ٤٧). هل يحتاج المسيح اليهودي التقي أن يعرف الله من البوذي أو غيرها من الطوائف الهندية؟. وإن كان المسيح قد ذهب إلى هناك فلماذا لم يظهر أي أثر للفكر والديانات الهندية في أقواله و تعاليمه؟ لماذا لم يذكر أي شيء عن بوذا وكرشنا وفشنو؟ لماذا لم يتحدث عن الكرما والنيرفانا وهما من أهم العقائد الهندوسية؟ هل هناك من دليل على أن المسيح كان يعرف لغات الهند؟!
– إن تفاصيل حياة المسيح كانت معروفة لليهود، وعندما بدأ كرازته رفضه بعضهم واتهموه بأفظع الاتهامات وقالوا: أن به شيطان، وأنه سامري (يو٨: ٤٨) واتهموه كثيراً بأنه يجدف (يو١٠: ٣١-٣٣)، فلو كان المسيح قد ذهب إلى الهند، لكن هذا موضع إتهام، لأن اليهود متعصبون لديانتهم، محتقرون لغيرهم من الأمم.
– يرى أصحاب هذا الزعم أن المسيح اقتبس من التعاليم الهندية بعد التعاليم مثل:
الثالوث، التجسد، الفداء.. وغيرها، وهذا غير صحيح، فأي تشابه جاء في الكتابات الهندية المتأخرة التي كتبت بعد دخول المسيحية إلى الهند، ولا سيما أن المسيحية عرفت طريقها إلى الهند في زمن مبكر على يد توما، وما زالت الكنيسة التي يطلق عليها “مار توما” موجودة في الهند حتى اليوم.
ثانيًا: يزعم البعض الآخر أن المسيح قضى هذه الفترة متتلمذًا على ياد الأسينيين في وادي قمران بالقرب من البحر الميت.
فمن هم الاسينيون؟ وما حقيقة علاقة المسيح بهم؟
الاسينيون طائفة يهودية متزمتة نشأت في القرن الثاني قبل الميلاد، في فترة حكم المكابيين، وقد نشأت هذه الطائفة نتيجة صراع ديني مع زعماء المكابيون حول منصب رئيس الكهنة، فاعتزلوا في الصحراء، وقد وصلنا بعد المعلومات عنهم من خلال المؤرخ يوسيفوس، والمؤرخ الروماني بليني، ولكن المعرفة الكاملة عنهم جأت من خلال اكتشاف وثائقهم “مخطوطات وادي قمران” والتي تمت سنة ١٩٤٧م وما بعدها.
لقد عاش الاسينيون كجماعة منعزلة، وضعت شروط خاصة للإنضمام إليهم. وكانت لهم عبادتهم اليومية، وطقوسهم الخاصه بالتطهير، واعتبروا أنفسهم البقية التقية، وفرضوا عقوبات قاسية على من يخالف قوانين الجماعة.
وتطرفوا في وصية حفظ يوم السبت والعلاقة بالهيكل في القدس، ونظرتهم إلى الآخرين.
ولا يمكن أن يكون المسيح واحدًا منهم أو متتلمذًا على أيديهم، فالمسيح لم يدعو للانفصال عن المجتمع والعيش في عزلة في الصحراء، بل دعى أتباعه أن يكونوا ملح الأرض ونور العالم (مت5: ١٣-١٦) وطلب من الآب أن يحفظهم من الشرير وهم في هذا العالم (يو١٧: ١٥) أن دعوة المسيح لم يكن لها أي شروط غير الايمان(لو٦: ٣٧)، وتعاليمه ليست متزمتة أو متطرفة وهذا ما نراه في تعاليمه بخصوص السبت أن السبت خلق لأجل الإنسان (مر٢: ٢٧-٢٨)، وكانت له علاقته بالهيكل، فقد ذهب إليه طفلاً، كان فيه معلمًا (مت٢٦ :٥٥). ويظهر التناقض الواضح بين المسيح والأسينيين في الموقف من المرأة ، فأنهم كانوا يرون أن النساء خطر شديد على دعوتهم ، و لكن المسيح قدم الدعوة للنساء ، وكن تلميذات له، وأول من ظهر له المسيح بعد قيامته كانت مريم المجدلية.
لقد كان الاسينيون يعتبرون أنفسهم أفضل من الجميع فهم أولاد النور، والآخرين أولاد الظلمة، ودعوا لمحبة جماعتهم فقط، أما المسيح فقد دعا لمحبة الجميح حتى الأعداء (مت٥: ٤٣، ٤٤).
من هذا يتأكد لنا أن المسيح لم يقض هذه الفترة من عمره متتلمذًا على يد الأسينيين في وادي قمران كما يزعمون.
ثالثًا: أما أحدث المزاعم فهو ما نادى به “مايكل بجنت” – كاتب إنجليزي- في كتابة “صحف المسيح” حيث أدعى أن المسيح قد جاء إلى مصر، وعاش فترة في منطقة “تل اليهودية” بالقرب من شبين القناطر بالقليوبية، حيث يوجد معبد يهودي بناه “أونياس”، وهناك درس وتعلم العقائد اليهودية، ثم بعد ذلك ذهب إلى مكان بالقرب من بحيرة مريوط، جنوب غرب الاسكندرية، وعاش فترة مع إحدى الطوائف اليهودية الباطنية التي تدعى “الثيرابيوني” أي الشفائيين وفي هذا الأدعاء مزج بيجنت بين الحقيقة والخيال واخترع نظرية أغرب من الخيال فوجود معبد أونياس في تل اليهودية بالقرب من شبين القناطر حقيقة تاريخية، فقد سمح بطليموس السادس لأونياس الرابع ببناء هذا المعبد في هذا المكان، ولكن مجئ المسيح إلى هذا المعبد زعم كاذب وليس هناك أي دليل عليه، لم يذكره كتبة الإنجيل أو أي مرجع تاريخي آخر، وأيضًا طائفة “الثيرابيوني” ذكرها فيلون في كتابه “الحياة التأملية”، وذكرها المؤرخ الكنسي يوسابيوس في كتابه “تاريخ الكنيسة”، ومما كتباه نعرف أنها جماعة يهودية متصوفة تأثرت كثيرًا بالفلسفة اليونانية والفيثاغورية، الديانة المصرية القديمة حتى قيل أنهم كانوا يعبدون الاله رع، وليس هناك أي دليل على ذهاب المسيح إلى هناك، فلم تكون دعوة المسيح للانعزال والتقشف وعدم مخالطة الآخرين، لقد كانت هذه الجماعة جماعة الصفوة، ولكن دعوة المسيح كانت للجميع.
إذا فالادعاءات بأن المسيح ذهب للهند، أو تتلمذ على يد الأسينيين في وادي قمران أو إنضم لطائفة الثيرابيوني في مصر كلها مزاعم كاذبة واقوال مرسلة لا دليل عليها ولكن يبقى السؤال: أين قضى المسيح هذه الفترة من عمره؟ والجواب الأكيد نجده في الكتاب المقدس، فالمسيح قضى هذه الفترة من عمره في الناصرة في فلسطين والدليل على ذلك:
– إلى الناصرة جاء الملاك جبرائيل مبشرًا العذراء مريم بولادة المسيح (لو١: ٢٦-٢٧).
– إلى الناصرة رجع المسيح مع يوسف ومريم بعد عودتهم من مصر “وَسَكَنَ فِي بَلْدَةٍ اسْمُها النّاصِرَةُ. حَدَثَ هَذا لِيَتِمَّ ما قالَهُ الأنبِياءُ بِأنَّ المَسِيحَ سَيُدْعَى ناصِرِيّاً.” (مت٢: ٢٣ ).
– في الناصرة قضى المسيح الفترة السابقة لبدء خدمته العلنية “وَبَعدَ أنْ أكمَلُوا كُلَّ ما تَنُصُّ عَلَيْهِ شَرِيعَةُ الرَّبِّ، عادُوا إلَى بَلدَتِهِمُ النّاصِرَةَ. وَاستَمَرَّ الطِّفلُ يَنمُو وَيَتَقَوَّى مُمتَلِئاً بِالحِكْمَةِ، ….. ثُمَّ رَجِعَ مَعَهُما إلَى النّاصِرَةِ، وَعاشَ تَحتَ سُلطَتِهِما.” (لو2: ٣٩-٥١).
– في مجمع الناصرة، كان المسيح يمارس العبادة “ثُمَّ ذَهَبَ يَسُوعُ إلَى النّاصِرَةِ حَيثُ نَشَأ. وَفِي يَومِ السَّبْتِ ذَهَبَ إلَى المَجمَعِ كَعادَتِهِ، وَوَقَفَ لِيَقْرَأ.” (لو٤: ١٦).
– لقد عرف بين الجميع أنه من الناصرة، و أطلق عليه إسم “يسوع الناصري” نسبة إلى الناصرة حيث عاش، قال فيلبس لنثنائيل: “لَقَدْ وَجَدْنا الرَّجُلَ الَّذِي كَتَبَ عَنْهُ مُوسَى فِي كُتُبِ الشَّرِيْعَةِ، وَالَّذِي كَتَبَ عَنْهُ الأنبِياءُ! هُوَ يَسُوعُ بْنُ يُوسُفَ مِنْ مَدِيْنَةِ النّاصِرَةِ.” (يو١: ٤٥).
إذاً فالمسيح يسوع قضى الفترة من الثانية عشرة إلى الثلاثين من عمره في الناصرة بفلسطين و لم يذهب إلي أي مكان خارج فلسطين كما يدعون.
ما الذي يدعو المسيح للذهاب إلى الهند؟ هل كانت تعوزه حكمة أو تنقصه معرفة؟
هل عاش فترة مع إحدى الطوائف اليهودية الباطنية التي تدعى “الثيرابيوني”؟