إن العمل الروحي في الكنائس تدور رحاه في اتجاهات متعددة، وفي هذه الأيام نرى الفيس بوك وقد تحول إلى “لوحة إعلانات كنسية” وأصبح أمرًا واقعًا رغم أن الفيس بوك هو موقع تواصل اجتماعي عام يراه ويقرأه الجميع، لكن ناهيك عن هذا فإننا نرى حشدًا من أيام ولقاءات روحية وتجمعات روحية وتؤخذ عدة صور من صلاة – إلى ما يسمى “نهضة” – إلى فرص كرازية… إلخ. وبالطبع هناك آراء متعددة حول جدوى هذه الفرص ويحتدم النقاش هذه الأيام بين مؤيد ومعارض، ولا أعني بهذا المقال أي نوع من الجدل فالجدل هو استخفاف بأي قضية من القضايا بل هو بحث محايد يحترم ويقدر أننا نتكلم عن أمور مقدسة وليس أمورًا عامة، ولذا لا بد أن نقدر الجهد والحب والإخلاص لشخص الرب. لذلك سأتأمل في هذا الموضوع الهام من خلال النقاط التالية:
أولًا: طبيعة اللقاءات الروحية:
1- الشعار: هناك فارق بين الشعار والهدف حيث يركز الشعار على آية معينة وما هو إلا محدد فكري فهو الأساس البحثي والهام الذي يدور اللقاء حوله. فمثلًا لو تم وضع شعار لليالي الانتعاشية فقد يكون: “فانظروا كيف تسلكون بالتدقيق، لا كجهلاء بل كحكماء، مفتدين الوقت لأن الأيام شريرة” (أف 5: 15 و16). وهو شعار محدد للعظات لكن لن تحدث معجزة بأن يخرج شعب الرب وقد تعلموا وطبقوا السلوك بالتدقيق فعليًا. وحقًا لا يمكن تغطية الشعار كله بعمق وبوضوح. وليس معني عدم إمكانية تغطية الشعار سواء بالتعليم أو بالسلوك الفعلي بهذا الشعار ألا يتم وضع شعار بل يجب وضع شعار صغير واضح يسهل استيعابه، فليس المهم بريق الشعار بل القوة والتأثير. ومع وضع الشعار أيًا كان لا بد أن يكون آية واضحة يسهل فهمها واستيعاب مضمونها العميق ولو جزئيًا خلال اللقاء الروحي. ولابد أن نتجنب أنه على سبيل المثال قد يحدث أحيانًا وضع شعار لليالي انتعاشية بينما العظات تسير في اتجاه آخر.
2- الهدف: والمقصود بهدف اللقاءات ليس ” الشعار” الموضوع لهذه الفرص، بل ما يمكن أن نحصده أو نحصل عليه من وراء هذا اللقاء الروحي، لأن الهدف العميق وراء أي لقاء هو الأساس العملي لفهم جدوى او عدم جدوى إقامة مثل هذا اللقاء. فمثلًا لو “ليالي كرازية” فهل هناك رقم محدد للنفوس مستهدف الوصول إليه؟ وإلا ما قيمة “ليالي كرازية” بلا هدف، بل وهل هناك خطة دقيقة موضوعة لمتابعة النفوس التي تقبل الرب؟ فالهدف والخطة شيئان متلازمان تمامًا. والواقع أن هناك غالبًا عمومية في تحديد الهدف مثل “عايزين نقلة روحية” – “ننهض بالناس بدلًا من المشغولية التي هم فيها”… وهكذا. إن عدم الوضوح الكافي لا يعني الإلغاء بل التصحيح الواجب في الفكر قبل إقامة مثل هذه اللقاءات. فإذا دققنا في هذا الأمر يمكن أن تكون هناك جدوى فعلية لهذه اللقاءات. وحاليًا حملت بعض الفرص الروحية شعارات يمكن أن تُستخدم في مجال آخر، فمثلًا نجد نهضة روحية في كنيسة ما وعنوانها “فن الحوار” بينما هذا الهدف (إن صح أن نطلق عليه ذلك) لا يصلح لنهضة أو ليالي انتعاشية بل يصلح للقاء تدريبي للخدام أو في مجال اجتماع الأسرة وليس للنهضات بأي حال من الأحوال.
3- مفهوم “النقلة الروحية”: الشائع لمن يحضرون هذا اللقاءات أنه يحدث معهم ما يسمى بـ “نقلة روحية”. وليس المهم المسمى لكن المهم المفهوم الكامن وراء هذا المسمى. فبشهادة مَنْ يحضرون مثل هذه اللقاءات فإن هذه “النقلة الروحية” ما هي إلا خطوة نمو روحي (لمسة روحية)، لكن في الواقع هي إلى حد بعيد وقتية فلا يدوم تأثيرها طويلًا. وهذا هو الأمر الصعب أن يعتمد النمو على أحداث معينة لا على ثبات مستمر في وجود الأحداث أو عدم وجودها. وهذا هو مكمن الخطر، فأصبح حتميًا تكرار مثل هذه اللقاءات سنويًا، فمثلًا 4-5 نهضات سنويًا إلى جانب عديد من برامج اليوم الواحد للقاءات الروحية وكذلك المؤتمرات بتنوعها أيضًا.
ثانيًا: الحلول الجذرية:
لا شك أنه ليس أمرًا صحيًا أن يكون شعب الرب غير قادر على الفطام من هذه اللقاءات بل كثيرًا ما يلح لأجل زيادة مثل هذه الفرص. ولو كانت لها جدوى في إحداث تغيير عميق ما كانت هناك مطالبات بالمزيد، فالتأثير لا يدوم طويلًا.
والآن نستعرض إمكانية إيجاد حل أو حلول جذرية لهذه المشكلة:
1- إنهاء حالة الجدل:
يُعد هذا الأمر هامًا للغاية كمفتاح أولي للحلول حيث إن الهدوء واللطف المسيحي بنقاش موضوعي هو بداية إيجاد الحلول. فنحتاج بشدة أن نتعلم فن وآداب الحوار لأن كل نقاش باتزان وتعقل قد يثمر أفضل من أي مجادلات. فهناك بالفعل من يعتقد أن الوضع الحالي هو أفضل وضع بسبب الاعتياد عليه، فالاعتياد يخلق حالة من الألفة والإحساس بأنه ليس في الإمكان أفضل مما كان. هذا إلى جانب أننا لا يجب أن ننكر سيادة السطحية والطفولة الروحية. لكن في كل الأحوال، من المهم إيقاف نزيف المجادلات الدائرة الآن على مواقع التواصل الاجتماعي حول جدوى مثل هذه اللقاءات لأنه في الواقع لن يمكن الوصول إلى أمر مُرضٍ من وراء أي جدل، فالجدل لا يقود إلى حلول بل إلى مزيد ومزيد من الجدل، أي يقود إلى زيادة الصراع الفكري ويتسبب في جروح للبعض.
2- الخروج من دائرة الراحة Comfort Zone:
من المهم الخروج من دائرة الراحة، أي بذل الجهد لتحقيق نمو روحي حقيقي لا يعتمد على المؤثرات بل على وجود المسيح فينا الذي هو “رجاء المجد”. في الرسائل، نقرأ الفعل الذي يفيد الاستمرار” انموا” أي أن هذا “أسلوب حياة” وليس مؤثرًا خارجيًا أو عملًا موسميًا.
“ولكن انموا في النعمة وفي معرفة ربنا ومخلصنا يسوع المسيح.” (2 بط 3: 18) “انموا” أي تقدموا إلى الأمام.
والرسول بولس ركز على النمو في معرفة الله، فعلى سبيل المثال:
“مثمرين في كل عمل صالح ونامين في معرفة الله.” (كو 1: 10)
“لكن ما كان لي ربحًا فهذا قد حسبته من أجل المسيح خسارة بل أني احسب كل شيء أيضًا خسارة من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربي، الذي من أجله خسرتُ كل الأشياء، وأنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح، وأوجد فيه … لأعرفه وقوة قيامته وشركة آلامه متشبهًا بموته.” (في 3: 7-10)
وكلما ازداد النمو في معرفة المسيح فإن حياة الثبات تكون واضحة: “أوجد فيه”.
3- وضع خطة كنسية للتعليم:
هذا هو مربط الفرس بحق وهو أمر شديد الأهمية للغاية فبدونه لن ينضج شعب الرب. وفي الواقع، تطبيقه سهل للغاية ويجعل هناك إمكانية ليس لإحداث مجرد “نقلة روحية” مؤقتة بل إمكانية هائلة للنمو الروحي المستمر. ويتلخص هذا في أن تقوم الكنيسة بما يلي:
– وضع خطة للتعليم المنبري سنويًا: حيث تدور كل الاجتماعات الكنسية العامة وعلى رأسها الآحاد في إطار الخطة التعليمية ولا تخرج عنها، بما فيها عظات الخدام المدعوين للوعظ في الكنيسة. فمثلًا: إذا وضعت الكنيسة خطة “النمو الروحي والقداسة” وطوال العام كان هناك إشباع تعليمي عميق عن هذا الأمر فإن النمو الروحي يكون قد أخذ وضعًا تعليميًا وتطبيقيًا كبيرًا.
– تقليل اللقاءات الروحية للكنيسة ووضع أهداف لها: عندما يكون شعب الرب شبعانًا بالكلمة فإن هذه اللقاءات التي تنظمها الكنيسة لن تكون فقط تعليمية ضمن نفس الخطة التعليمية للعام بل تكون مكملة ومتممة للإستراتيجية التعليمية للكنيسة.
– الاستمرارية في وضع الخطة التعليمية سنويًا: مع الاستمرارية من عام إلى عام، تصير اللقاءات ثانوية، أي يمكن بمرونة زيادتها أو تقليلها، ولن يتم هذا قبل الانتظام في وجود خطة تعليمية على الأقل يكون قد مضت عليها 3-5 أعوام فلا تكون الخطة التعليمية فقط مشبعة لشعب الرب بل تصبح الأساس القوي الثابت للبناء الروحي في الكنيسة.
– بالنسبة للقاءات الروحية العامة: أي التي لا تقوم الكنيسة بإعدادها بل تدعو إليها كنيسة أخرى، في هذه الحالة لن يعتمد شعب الرب (في الكنيسة المشبعة تعليميًا) على هذه اللقاءات كمحور أساسي للنمو الروحي.
أخيرًا:
في زمن السطحية وغياب التعليم، على الكنيسة أن تفيق وتقوم من هذه الغفلة وتهتم بالتعليم بقوة وتضع خططًا فعالة تشبع شعب الرب تعليميًا حتى يزداد النضوج ويتعمق النمو الروحي الحقيقي.
القس رأفت رؤوف الجاولي