د. فريز صموئيل
نؤمن نحن المسيحيون بإله واحد، ليس عدديًا، ولكن بمعنى أنه متميز ومنفرد، ليس له مثيل أو شبيه، وهذا واضح مما جاء في الكتاب المقدس “الرب إلهنا رب واحد” (مز12: 29)، “للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد” (مت4: 10)، “لأن الله واحد هو الذي سيبرر” (رو3: 30)، “أنت تؤمن أن الله واحد. حسنًا تفعل” (يع2: 19). ورغم أن الإيمان بوحدانية الله اتفقت عليه كل الأديان، إلا أن الاختلاف هو حول نوع الوحدانية اللائقة بالله، ونحن نؤمن أن الوحدانية الجامعة هي التي تليق بذات الله، وليست الوحدانية المطلقة أو المجردة، لذلك فنحن نؤمن أن الله واحد في الجوهر مثلث الأقانيم.
ونحن نؤمن أن الوحدانية في ثالوث حقيقة إيمانية، قد أعلنها الله، فهي إعلان الله عن ذاته، وهذه العقيدة لا يمكن إدراكها بالفعل:
• لسموها: فهي تتعلق بالله الذي لا شبيه أو مثيل له.
• لقصور العقل البشري: فلله كمال مطلق غير محدود، والعقل البشري المحدود لا يمكن أن يحيط بالكمال المطلق. وإذا كنا نحن لم نفهم أنفسنا بعد، ولا نستطيع أن نفسر كثيرا من الأشياء في هذا الكون، فكيف نفهم أسرار الإلوهية. إننا لا نستطيع بعقولنا المحدودة أن ندرك الوحدانية في ثالوث، ولكن عدم إدراكنا لها لا يمنع حقيقة وجودها.
• لقصور ألفاظ اللغة: إن إعلان الله عن ذاته هو لبشر ذوي عقول محدودة، ولا توجد لغة إلهية، ولذلك فإعلان الله لنا عن ذاته هو بألفاظ اللغة البشرية، والتي هي قاصرة عن أن تعبر عن الله غير المحدود.
ثانيًا: مصدر عقيدة الوحدانية في ثالوث:
لقد أعلن الله لنا عن ذاته في الكتاب المقدس، وكان من الطبيعي أن يكون الإعلان أولاً عن وحدانية الله، ثم اكتمل الإعلان الإلهي، والذي انفردت به المسيحية في الإعلان عن الوحدانية في ثالوث. ولهذا فنحن لم نخترع عقيدة الثالوث ولم نقل عن الله ما لم يقله عن ذاته، وهذه العقيدة هي إعلان الله عن ذاته ومن يصدقها ويقبلها فإنه يصدق الله ذاته، ومن يرفضها فإنه يتحمل مسئولية رفضه.
إننا نؤمن بإله واحد مثلث الأقانيم، والوحدانية تتعلق بالجوهر الإلهي، والثالوث يتعلق بالأقانيم ولا تناقض في ذلك، ونحن لا نجد أية مشكلة في عقيدة الثالوث تتطلب الحل أو التأويل. لأن هذا إعلان الله عن ذاته في الكتاب المقدس.
ونحن نسأل الذين يطالبوننا بإثبات هذه العقيدة بالأدلة المنطقية والعقلية، هل يستطيعون إثبات الوحدانية بذات البراهين التي يطالبوننا بها؟!!
ثالثًا: استخدام ألفاظ غير كتابية للتعبير عن الإيمان:
يتهمنا البعض باختراع عقيدة الثالوث، وذلك لأن الكلمات المستخدمة للتعبير عن هذه العقيدة الإيمانية مثل: الثالوث، والأقانيم لم ترد في الكتاب المقدس.
في الحقيقة إن كلمة “ثالوث” لم ترد بلفظها في الكتاب المقدس، ولكن حقيقتها موجودة وبشكل واضح، فالكتاب المقدس يتحدث عن: الآب والابن والروح القدس فهم ثالوث.
وقد استخدم آباء الكنيسة لفظة “ثالوث” قبيل نهاية القرن الثاني الميلادي، فقد وردت في كتابات القديس ثاوفيلس الأنطاكي ثم القديس ترتليان، واستخدمها مجمع نيقية في الرد على بدعة آريوس، ولكن هذا لا يعني أن عقيدة الثالوث تم اختراعها في ذلك الوقت، ولكن حقيقة الثالوث معلنة في التوراة والإنجيل، ولكن عُبر عنها بألفاظ واضحة ومحددة، ويكون الاعتراض صحيحًا لو خالف هذ اللفظ النص الكتابي الموحى به،
إن قبول الاعتراض معناه عدم شرح أو تفسير عقيدة دينية إلا بألفاظ الوحي، وهذا غير صحيح شكلاً وموضوعًا.
وهذا ينطبق أيضًا على كلمة “أقنوم” فهي لم ترد في الكتاب المقدس، ولكن معناها مناسب جدًا لوصف إعلان الله عن نفسه، وهي كلمة سريانية وتعني الذات المتميزة غير المنفصلة، ونحن في اللغة العربية نتجنب استعمال كلمة “شخص” للتعبير عن الآب والابن والروح القدس، لأن كلمة شخص تعني ذاتًا منفصلة والثالوث غير ذلك.
إذًا، فاستخدام كلمتي “الثالوث، والأقانيم” لا يعني اختراع عقيدة الثالوث، بل التعبير عنها بألفاظ بشرية واضحة ومحددة في الرد على البدع والهرطقات التي ظهرت في ذلك الوقت.
رابعًا: تلميحات التوراة عن الثالوث:
يبدأ إعلان الله عن نفسه بالكشف عن الوحدانية “أنا الله وليس آخر” (إش 46: 9)، اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد” (تث 6: 4).
ولم يأت في التوراة إعلان واضح وصريح عن الثالوث، وذلك حتى لا يلتبس عليهم الأمر بسبب تعدد الآلهة في المجتمعات الوثنية من حولهم. وأيضًا لأن معاملات الله المتعلقة بتجسد المسيح (أقنوم الابن)، وإرسال الروح القدس لم يكن قد جاء وقتها بعد، لهذا لم يعلن الله عن الثالوث بشكل واضح، ولكن بتلميحات عديدة أدركناها نحن بوضوح في ضوء إعلانات العهد الجديد، ومن هذه التلميحات:
• تك 1: 1 “في البدء خق الله السماء والأرض” وكلمة “الله” جاءت في النص العبري “إلوهيم” والتي تعني الجمع. وهنا يعترض المهاجمون ويقولون إن صيغة الجمع هنا للتعظيم، ولكن الحقيقة بخلاف ما يدعون، فاللغة العبرية ليس بها جمع للتعظيم، والدليل على ذلك استخدم الملوك لصيغة المفرد في التحدث عن أنفسهم، مثل القول: أنا فرعون (تك41: 44)، وأنا نبوخذ نصر (دا 4: 4)، وأنا كورش (عز 6: 12).
كما أن الناس في ذلك الوقت لم يخاطبوا الملوك بصيغة الجمع بل المفرد، والله تكلم عن نفسه بصيغة المفرد في بعض المواضع مثل: “لا تخف يا إبراهيم. أنا ترس لك” (تك 15: 1)، “أنا الرب وليس آخر” (أش 45: 6)، “أنا الرب ولا إله آخر غيري” (إش 45: 21). ومن المؤكد أن الله عظيم في ذاته ولا يحتاج أن يعظم نفسه.
• عندما خلق الله الإنسان قال “نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا”.
وهنا نجد الفعل “نعمل” في صيغة الجمع، وأيضًا ضمائر الجمع الملحقة في كلمتي “صورتنا – شبهنا”.
وهنا الله يتكلم مع من، لا يمكن أن يكون متكلمًا مع الملائكة أو الخليقة لأنهما لم يُخلقا بعد، إذًا، الجمع هنا يقتضي وجود الأقانيم. وعندما نقرأ بقية النص نجد “فخلق الإنسان على صورته” بالمفرد. وهذا يقتضي الوحدانية، فالوحدانية والتعدد معًا ظاهران في النص.
• وكذلك عند سقوط آدم، قال الله: “هوذا الإنسان قد صار كواحد منا”. و “منا” تشير إلى التعدد وبما أنه لا يمكن أن يكون هناك آلهة، إذًا لابد أن تكون الوحدانية الجامعة.
• وكذلك عند بناء برج بابل، قال الله “هلم ننزل ونبلبل لسانهم” (تك 11: 17).
• وقد جاء في سفر النبي إشعياء “قد سمعت صوت السيد قائلًا: من أرسل ومن يذهب من أجلنا” (إش 6: 8).
وأيضًا “منذ وجوده وأنا هناك، والآن السيد الرب أرسلني وروحه” (إش 48: 16).
وهنا نرى بوضوح أن أقنوم الابن أزلي بأزلية الله، وأن أقنومي الآب والروح القدس قد أرسلا أقنوم الابن، وكون أن الآب يرسل الابن، فهذا ليس للأفضلية، ولكنه خضوع تدبيري خاص بعمل أقنوم الابن المتجسد.
خامسًا: الإعلان الواضح عن الثالوث في العهد الجديد:
لقد أعلنت حقيقة الثالوث بكل وضوح في العهد الجديد، فبعد أن ترسخت حقيقة الوحدانية، أن الله واحد لا شبيه ولا مثيل له، جاء إعلان الله عن ذاته في:
أ- حادثة معمودية المسيح: “فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء وإذا السموات قد انفتحت له، فرأى روح الله نازلًا مثل حمامة وآتيًا عليه، وصوت من السماء قائلاً: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت” (مت 3: 16- 17) وهنا نرى:
– أقنوم الآب: صوت من السماء قائلاً: هذا هو ابني الحبيب. ويجب أن تستبعد هنا المفهوم البشري عن أن الآب لابد أن يسبق الابن، لأن الآب أزلي، والابن أزلي ولا درجات في الأزلية.
– أقنوم الابن: وهو المسيح الذي قبل بإرادته أن يأخذ جسدًا بشريًا “والكلمة صار جسدًا وحل بيننا ورأينا مجده كما لوحيد من الآب” (يو1: 14).
– أقنوم الروح القدس: وهو غير منظور وغير متجسد، وظهر في صورة حمامة وهذا الإعلان الثلاثي يوضح حقيقة الوحدانية في ثالوث.
ب- حادثة التجلي: وفيها نرى “صوت من السماء قائلاً: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت له اسمعوا” (مت 17: 15). وهنا نرى أقنومي الآب والابن.
ت- في أمر المسيح بممارسة المعمودية، قال: “فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس” (مت 28: 19).
ث- في البركة الرسولية: “نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله الآب وشركة الروح القدس مع جميعكم أمين” (2كو 13: 14).
وحتى يوضح لنا الكتاب المقدس المساواة بين الأقانيم لأنهم واحد في الجوهر، نراه يذكر الأقانيم بالترتيب: الآب والابن والروح القدس، ولكنه هنا يذكر أقنوم الابن قبل أقنوم الآب موضحًا أن الأسبقية في الترتيب لا تعني الأفضلية بأي حال من الأحوال.
الخلاصة:
نحن موحدين، نؤمن بإله واحد، أعلن عن ذاته أن وحدانيته جامعة، آب وابن وروح قدس، الوحدانية في الذات، والثالوث في الأقانيم ولا تعارض.
كون أن البعض يحاول أن يخضع إيماننا للعقل – وهذا مستحيل – ويرى أن هذا تعدد آلهة، نقول إن عدم فهمك لا يبرر بالمرة أن تتهمنا بما لم نقله، فنحن لم ولن نقول إن هناك ثلاثة آلهة بمعنى ثلاث ذوات منفصلة، لأنه لو كانت ثلاث ذوات منفصلة فهذا يعني 1+ 1 + 1= 3 (رغم أن الله لا يخضع للكم والكيف أو العمليات الحسابية). ولكننا نقول 1× 1× 1 = 1 لأنهم ذات واحدة في ثلاثة أقانيم.
ورغم أن الإيمان بوحدانية الله اتفقت عليه كل الأديان، إلا أن الاختلاف هو حول نوع الوحدانية اللائقة بالله، ونحن نؤمن أن الوحدانية الجامعة هي التي تليق بذات الله، وليست الوحدانية المطلقة أو المجردة