15.4 C
Cairo
الأربعاء, ديسمبر 18, 2024
الرئيسيةفكر مسيحيالمناعة النفسية طريق للصحة النفسية

المناعة النفسية طريق للصحة النفسية

د. فيولا موريس

كثيرًا ما يردد البعض تعبير الصحة النفسية دون أن يدركوا المعنى الحقيقي لهذا التعبير، إذ أن الغالبية يعتقدون أنه يعني خلو الشخص من المرض النفسي، إلا أن هذا التعريف يُعتبر تعريفًا سلبيًا لأن الصحة النفسية تشمل بُعدًا أعمق من ذلك، فهي تعني التمتع بجودة الحياة النفسية والاجتماعية والصحية والروحية.

 فالشخص الذي يتمتع بجودة الحياة في جميع دوائرها هو الذي يمتلك مهارات حياتية متعددة كالقدرة على التعبير عن نفسه (مشاعره وأفكاره) بحرية تامة، كما أنه يتمتع بالنضوج الفكري ومنطقية التفكير مما يجعله قادرًا على اتخاذ قرارات سليمة ناتجة عن الثقة بالنفس واحترامها واحترام الآخرين. كذلك فإن لديه القدرة على التحكم في كل من الوسط الداخلي والوسط الخارجي بشكل متوازن، وهو ما يعني قدرة الشخص على التحكم في ذاته وذلك بالسيطرة على انفعالاته والتحكم في دوافعه واندفاعاته، كما يمكنه السيطرة على الموقف الخارجي، أي ما يواجهه من صراعات وتحديات، وذلك مثل القدرة على التصدي للإغراء المادي أو الجنسي.

ويذكر لنا الكتاب المقدس مثالًا واضحًا لذلك حينما تعرَّض يوسف الصديق لتجارب وإغراءات جنسية من زوجة فوطيفار ويوضح لنا كيف استطاع أن يتحكم في الوسط الداخلي (الذات) والوسط الخارجي (البيئة).

وخلاصة القول أن الصحة النفسية تعني القدرة على التكيف مع العالم الخارجي بشكل جيد، وذلك بإشباع احتياجاتنا النفسية والمادية والروحية بدرجة عالية من الجودة في ضوء متطلبات وقواعد وثقافة البيئة التي نعيش فيها. فإذا لم يتم إشباع احتياجاتنا بما يتوافق مع ظروف الحياة المختلفة فإن ذلك يعرِّض الشخص إلى الوقوع في صراع نفسي يصاحبه توتر وإحباط شديدين مما يؤدي إلى كبت هذه الصراعات والتي قد تصل به في النهاية إلى طريق المرض النفسي.

إن التمتع بالصحة النفسية يؤدي إلى قدرة الشخص على المشاركة في الحياة الاجتماعية والمبادرة واحترام القيم الأخلاقية، كالحق والخير والجمال، بالإضافة لاحترام المعايير الاجتماعية والثقافة المجتمعية. كما تجعل الصحة النفسية الشخص أكثر واقعيةً في تحقيق أهدافه في الحياة، وقد يتطلب ذلك قدرًا كبيرًا من المرونة والذكاء حتى يمكن للشخص مواجهة المواقف المختلفة إما بتغيير ذاته أو بتغيير البيئة المحيطة به.

كيف تحقق الصحة النفسية؟

إن الطريق الأمثل لتحقيق الصحة النفسية والتمتع بجودة الحياة في كافة مجالاتها هو ما يُعرف بتقوية جهاز المناعة النفسي، وهذا الجهاز منحه الله لكل البشر وهو يماثل جهاز المناعة العضوي والذي يمكن بواسطته مواجهة الأمراض التي تهاجم الجسم، وهو أيضًا يعمل على إعادة التوازن الجسمي وإدارته بكفاءة.

ولا يعمل جهاز المناعة النفسي بكفاءة إلا إذا أحسنا استخدامه، فهو في حاجة إلى تنمية مهاراتنا كي يعمل بجودة عالية، وهذا يتطلب تصالح الشخص مع نفسه وعندئذٍ يشعر بالقيمة الحقيقية لذاته فيرى نفسه بأنه إنسان كامل له هوية أصيلة متفردة حيث إنه خُلق على صورة الله. وهذا يحتاج إلى تغيير طريقة التفكير، فيتعامل الشخص مع تحديات وصراعات الحياة بفلسفة خاصة يدرك من خلالها الحكمة الإلهية التي تجعله يعرف معنى الحياة الحقيقية.

دائمًا تحمل الحياة أحداثًا سارة وأحداثًا مؤلمة، ويعمل كلا النوعين من الأحداث في سيمفونية رائعة تشكِّل حياة الفرد كما تحافظ على وحدة شخصيته وتجعله أكثر نجاحًا وتفوقًا في الحياة. وقد أوضح لنا الكتاب المقدس هذا المعنى في رسالة (رو12: 2)، والتي توجه لنا هذه النصيحة: “تغيَّروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم لتختبروا ما هي إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة.”

إن قبول الشخص لذاته يجعله أكثر تفهمًا لنقاط ضعفه وقوته وأكثر إدراكًا لإمكانياته وواقعه الذي يعيش فيه، فلا ينشد الكمال الذي يعجز عن الوصول إليه والذي يؤدي به إلى الشعور بالتذمر أو الإحساس بصغر النفس، خاصةً حينما يضع نفسه في موضع مقارنات مع الآخرين، لكن هذا لا يعني ألا نمتلك الطموح كي نحقق ذواتنا.

ولتقوية جهاز المناعة، لا بد للشخص أن يرفض كل مشاعر سلبية كالشعور بالرفض والذي يجعله في أحيان كثيرة يحترق من أجل الآخرين كي يحصل على رضاهم ومحبتهم متناسيًا احتياجاته ومتطلباته الشخصية، كما أن عليه أن يستبعد مشاعر الذنب واللوم والتأنيب الموجَّهة لذاته حتى لا يعيش تحت عبودية جلد الذات أو مشاعر الشفقة على الذات والتي تجعله منحصرًا في نفسه فينشد اهتمام الآخرين أيضًا وفي النهاية يقع في محبة الذات.

إن تغيير طريقة التفكير ورفض المشاعر السلبية يتيحان للشخص فرصة الخروج من ذاته والسعي لتكوين علاقات ناجحة مثمرة، كما أنهما يجعلان الشخص يعيش حياة الرضا والشكر والفرح الدائم إذ أن أفراحنا تصبح من صنع أفكارنا.

ويعني التصالح مع النفس الوعي بالذات وبضعفاتها وإمكانياتها كما سبق القول مما يتيح للشخص إمكانية قبول ضعف ونقائص الآخرين فيتلمس الأعذار لهم ويحمل لهم المحبة التي تساعده على التسامح والغفران فيسعى لقبول الآخر.

ولا يأتي قبولنا لأنفسنا وللآخرين تلقائيًا بل يتحقق بالالتصاق بمصدر العطاء والحب الحقيقي، شخص الرب يسوع الذي قبلنا وأحبنا فضلًا دون شروط مسبقة، وذلك من خلال العلاقة الحميمة معه والتي يعلن لنا من خلالها غفرانه ورحمته وأبوته الحقيقية فيملأ كياننا وأعماقنا بالحضور الإلهي لندرك أن كل ما له هو لنا، وعندئذٍ نسترد هويتنا الأصلية ومكانتنا كأبناء له وراثين للملكوت.

مقالات أخرى

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا