د. أماني البرت
تعود أحداث الرواية للفترة ما بين القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد
وتدور القصة في مدينة شوشن عاصمة بلاد فارس في عهد الملك “أحشويروش” المعروف باسم زركسيس الأول الذي حكم 127 مملكة.
رائحة الحياة
الحلقة الثانية:
(شبنة هو ابن عم الطفلة التي ماتت أمها أثناء ولادتها وسبقها أباها، وبعد دفن الأم وبينما شبنة نائم حلم حلمًا غريبًا ..
كان واقفًا في ساحة كبيرة مقسَّمة إلى أقسام كثيرة بأعمدة ضخمة، وداخل الأقسام شعوب وجماعات من كل جنس ولون. وبينما كان واقفًا، ظهر ثعبان كبير يزحف أعلى هذه الأعمدة.. كان ينفث رائحة كريهة أزعجت كل مَنْ كانوا في هذه الساحة بل وأصابتهم بالاختناق ولكنهم لم يقدروا أن يفعلوا له أي شيء وبدا وكأنه يريد ابتلاعهم جميعًا..
فجأة استيقظ”شبنة” على صوت العمة “رفقة” وهي تنادي بصوت مجهد:
– “شبنة”.. “شبنة”.. أووه، اعذرني يا ولدي لم أظن أنك نائم.
– لا بأس عمتي.. يبدو أنني غفوتُ.
– قل لي ماذا ستسميها؟ هل تسميها على اسم أمها “مريم”؟
رد “شبنة” بسرعة:
– كلا.
قالت العمة “رفقة” بنبرة أمل:
– إذًا فقد فكرت في الاسم.
رد بارتباك:
– كلا.. نعم.
– ماذا أفهم من هذا؟
– سأسميها “هداسا”.
– “هداسا”؟ لا أحد في معارفنا بهذا الاسم ولا حتى أقرباء أمها ولا أبوها.
– نعم، عمتي، أعرف، ولكني حلمتُ حلمًا وسأسميها “هداسا” تيمنًا به.
قاطعته العمة “رفقة” بابتسامة خفيفة:
– مبارك الرب.. يبدو أننا أمام أمر غير عادي يحدث هنا. احكِ لي حلمك فأفسره لك.
علا فجأة صوت بكاء الطفلة فقامت العمة “رفقة” مسرعة نحو الغرفة قائلة:
– سأعود حالًا، فما زالت هناك أمور نحتاج لترتيبها.
هز ’”شبنة” رأسه وقد ارتسمت ملامح الحماس على وجهه المربع وقال:
– ماذا كنتُ لأفعل بدونك؟
كانت العمة “رفقة” هي الأم الروحية لكل أبناء عشيرتهم، الكل يناديها عمتي.. وبالنسبة لـ”شبنة” كانت عمته بالميلاد أيضًا.
كان لديها أخوان هما “أبيحائل” الذي مات منذ أشهر وتلته زوجته “مريم” الآن.. والثاني هو أخوها الأوسط “يائير” والد “شبنة” وقد غادر الحياة أيضًا من سنين.
وُلِد على يديها جميع أطفال العائلة ومن ضمنهم “شبنة” هذا.. وكان زوجها كبير جماعتهم قبل أن يموت هو الآخر منذ سنوات معدودة.
وللعمة “رفقة” ستة بنين وست بنات وبيتها يلاصق بيت “شبنة”. ويعيش ابنها البكر جرشون وأولاده العشرة معها. بكره هو “بنيامين” وأصغر أبنائه هو “داود”، وقد ورث هو وإخوته عن أبيه دكانًا لتجارة الأعشاب العطرية .. وتعلَّم من والدته خلاصة خبرتها في هذا المجال، فقد كانت الأفضل.
العمة “رفقة” ذات وجه دائري، ولها جبين واسع وأعين كبيرة وحاجبان متقاربان من بعضهما البعض. كانت ممتلئة الخدود، ولديها غمازتان غائرتان على وجنتيها تعطيان إيحاء بالابتسامة والطيبة، وساهم غياب سنتيها الأماميتين في توصيل هذا الإحساس.
لا أحد يعرف عمرها، ولا هي نفسها.. إذ عبرت سنواتها كما تتساقط أوراق الخريف الواحدة تلو الأخرى. ربما تكون قد تجاوزت عامها الستين وربما السبعين، وقد خط الشيب علاماته على تجاعيد وجهها وظهر جزء من شعرها الأبيض منسدلًا من غطاء الرأس التي تربطه بإحكام بعقدتين من الأمام.
كانت العمة “رفقة” بمثابة أم ترعى الجميع، خاصةً بعد أن تزوج جميع أولادها. وفي السنوات الأخيرة، أولت أخويها وأولادهما عناية خاصة.. بدأت برعايتها لزوجة “شبنة” المريضة وبعد موتها رعايتها له.. وما هي إلا سنوات قليلة حتى قامت العمة “رفقة” بدورها من جديد في رعايتها لأخيها “أبيحائل” والد الطفلة المولودة أثناء مرضه وهو الذي انتقل مع زوجته ليقيم عند ابن أخيه ’’شبنة‘‘ بعد أن خسر أمواله وعاني من ضيق اليد.
*********
رجعت العمة “رفقة” ومعها مشروب ساخن.. انحنت لتضعه على المنضدة فانسدلت خصلات شعرها الأبيض من غطاء الرأس.. ثم جلست على الكرسي المقابل.
مد “شبنة” يده ليأخذ المشروب ونظر إليها وهي تقول:
– قل لي بماذا حلمت؟
حكى حلمه للعمة “رفقة”.. كان يرتشف مشروبه الساخن ويشرح ما رأى ثم يتوقف لمزيد من التدقيق.. فقد أثَّرت عليه مهنته ككاتب داخل البلاط..
كانت العمة “رفقة” تنصت إليه باهتمام.. وبعد أن انتهى قال لها:
– هذا كل ما رأيته.
ثم سكت.. سندت العمة “رفقة” ذقنها بيدها ثم نظرت إليه نظرة عميقة.
– الحلم ليس لوقت قريب يا ابني، طالما رأيتها شجرة وليس نبتة.. ومَنْ ينكر رائحة الآس العطرية وجمال منظره وخضار أوراقه طوال أوقات السنة.. ثم أن للآس فوائد صحية كثيرة.. ربما.. ربما.. ستصبح مختصة في الأعشاب العطرية حينما تكبر وتساعد المرضى… و.. و..
ابتسم “شبنة” مداعبًا العمة “رفقة”.
– عمتي.. أنتِ تريدين أن يهتم كل الناس مثلك بالأعشاب العطرية.
– آه.. مهنة آبائي وأجدادي.. وميراث زوجي.
ثم عقدت حاجبيها وقالت بصوت أسيف:
– ولكن رغم كل خبرتي يا ابني لم أتمكن من مساعده “أبيحائل”.
– كلا، عمتي.. لقد فعلتِ كل ما بوسعك لإنقاذه.. على الأقل خففت وصفاتك كثير من آلامه.. هل تتذكرين قربكما أثناء فترة مرضه؟
– لا يمكنني أن أنسى دمعته الجامدة على طرف جبينه وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة.. ويقول بصوت متقطع: “مريم” والمولود و”شبنة”وكأنه كان يوصيني عليكما.
امتلأت عيناها بالدموع وقالت:
– وما فعلته معه أنت كان منتهى النبل.
– ماذا فعلتُ يا عمتي؟.. كيف يمكن أن أتركه؟ هو لحمي ودمي ونحن في أرض غريبة.. إن لم أساعده أنا فمن يفعل؟
– لقد أخطأ حين وثق في التجار الغرباء.. ووضع كل ما لديه معهم في كيس واحد.
– نعم.. لم يتحمل الخيانة والخسارة.. فمرض.
– يكفي أنه في آخر أيامه رجع من جديد ليهوه الرب.. لقد أضاع عمره بحثًا عن أمور لا قيمة لها.. ولكني كنتُ أسمع تمتمته وهو يصلي في لياليه الأخيرة.
– نعم، لقد رد يهوه نفسه.
– مبارك الرب في كل ما يصنع.
(يُتبع)