مايكل أ. جريسانتي
أوجه الشبه المحتملة بين قصص الشرق الأدنى القديم وقصص الكتاب المقدس عن الخلق والطوفان:
تجادل العلماء من مختلف الانتماءات اللاهوتية، طوال عقود، في معنى (تك1-11) ودلالته (ولا سيما الإصحاحان الأول والثاني). هل ينبغي فهم هذه الإصحاحات على أنها تاريخ أم على أنها أسطورة؟ وتتعلَّق إحدى القضايا المهمة التي أثارت هذا الجدل بالتشابه بين قصص الكتاب المقدس عن الخلق ( ص1 و2) وعن الطوفان (ص6-9) وبين العديد من قصص الشرق الأدنى القديم عن الخلق والطوفان. وعلى الرغم من فحص العلماء للأدب المصري والأدب الأوغاريتي، انصبَّ معظم اهتمامهم على أساطير بلاد ما بين النهرين، ولا سيما أسطورة «إنوما إليش»، وملحمة «أتراحاسيس»، وملحمة «جلجامِش». وأشار العلماء إلى وجود العديد من أوجه الشبه بين هذه الأساطير وبين قصص الكتاب المقدس.
أولًا، تصف كل من قصص الشرق الأدنى القديم وقصص الكتاب المقدس فترة من الفوضى (تضمَّنت مياهًا)، أعقبها خلق، ثم ترتيب وتنظيم للعالم، ثم تحديد وظيفة ما خُلِق، والغرض منه.
ثانيًا، انطوت «حالة الفوضى الأولى» على مياه وظلمة. وفي كل من نصوص الشرق الأدنى القديم والكتب المقدس، مَارَسَ الإله الأعلى قوةً وسلطانًا على «الغمر» («تيامات» أو T’hom الإلهة تيامات هي إلهة المحيطات في الديانة البابلية القديمة، وهي رمز الفوضى الخلق البدائية. أما كلمة T’hom العبرية، التي تُرجمت إلى «الغمر» في (تك1: 2؛ 7: 11) فمعناها الأعماق)، وعلى الظلمة أيضًا.
ثالثًا، يُظهِر الكائن الإلهي سلطانه عن طريق تقسيم المياه. ففي الكتاب المقدس، خَلَقَ الله الجَلَد ليفصل بين المياه من فوقه والمياه من تحته. وفي أسطورة إنوما إليش، فصل الإله مردوخ جثمان الإلهة تيامات المنهزمة قاسمًا مياهها إلى نصفين.
رابعًا، في أساطير الشرق الأدنى القديم، تمزج الآلهة الدماء والبُصاق بالطين كجزء من عملية خلق البشر (مزيج من العناصر). وفي الإصحاح الأول من سفر التكوين، خلق الله الجنس البشري عن طريق مزج تراب الأرض بنسمة فمه، ثم خُلقت حواء لاحقًا من ضلع آدم.
تكوين 1-2 أسطورة خرافية:
في ضوء أوجه الشبه المذكورة أعلاه (وأخرى غيرها)، صنَّف علماء النقد أو العلماء غير الإنجيليين هذه الإصحاحات بشكل حصري تقريبًا على أنها أسطورة خرافية. وعلى الرغم من صعوبة تعريف مصطلح «أسطورة»، إلا أن الفهم الأساسي للأسطورة هو أنها «وسيلة قديمة وسابقة للعصر الحديث ولظهور العلم للإجابة -في هيئة قصص- عن التساؤلات بشأن الأصول الأولى للأشياء، ومعنى الحياة، مثل: مَنْ نحن؟ ومن أين أتينا؟» وفي كثير من الأحيان، يقصد أولئك العلماء بكلمة «أسطورة» شيئًا خياليًا أو غير تاريخي. لكن حَرِصَ بعض العلماء على التمييز بين الأسطورة والخيال المُطلق، مؤكدين أن الأسطورة يمكن أن تستحضر تاريخًا أو تشير إليه. وردًا على سؤال: «هل الإصحاح الأول من سفر التكوين هو أسطورة خَلق؟»، أجاب مارك سميث (Mark smith) قائلًا: «نعم ولا». ففي ضوء خلفية هذا الإصحاح (سواء الخلفية الكتابية أو خلفية الشرق الأدنى القديم)، خَلَص سميث إلى أنه قطعًا أسطورة. غير أن موقع هذا الإصحاح في بداية سفر التكوين، بالإضافة إلى بعض العبارات الواردة فيه، يوحيان بارتباطه بزمن تاريخي. وافترض سميث أن الإجابة عن هذا السؤال تعتمد على كيفية تعريف المرء لكلمة «أسطورة».
يكافح الإنجيليون أيضًا لمعرفة الإجابة عن هذا السؤال، ويتفق العديد منهم على أن القسم الأول من سفر التكوين (ص1-11) ينتمي إلى أدب الأساطير، وليس إلى الأدب التاريخي. لكن على النقيض من العلماء غير الإنجيليين، الذين يرفضون تمامًا فكرة الوحي والإعلان الإلهي، يؤمن الإنجيليون المؤيدون لأسطورية هذه الإصحاحات بأن الانتباه المتمعِّن إلى خلفية الشرق الأدنى القديم للإصحاحين الأول والثاني من السفر هو ما يقودهم إلى هذا التفسير. لم يتجاهل هؤلاء أن هذه الإصحاحات تقدِّم «حقائق» (مثل أن الله إله واحد وليس عدة آلهة، وأن البشر مخلوقون على صورة الله، وغير ذلك)، لكنهم ركَّزوا على الشكل الذي يَعرض به سفر التكوين هذه الحقائق. فهم يحاولون بطرق عديدة الإجابة عن السؤال التالي: هل وقع حدث خلق آدم حرفيًا كما هو مذكور في القصة، أم أن قصة خَلق آدم صيغت على هذا النحو لتعليمنا بعض الأمور عن طبيعة البشر؟ افترض والتون (Walton) أن الأساطير في العالم القديم كانت شبيهة بالعلم في العصر الحديث، أي أنها كانت تعرض تفسيراتها لأصل ونشأة العالم وللطريقة التي يعمل بها. ومن ثَمَّ، كانت الأساطير نافذة على المجتمع، أي انعكاسًا لنظرة المجتمع إلى العالم، وقِيَمِه التي صاغت هذه الأساطير. ويرى والتون أن أجزاءً كثيرة من العهد القديم أدَّت الدور عينه الذي أدَّته الأساطير في مجتمعات أخرى، فقد أتاحت هذه النصوص لبني إسرائيل آلية أدبية لحفظ نظرتهم إلى العالم وقِيَمِهم، ونقلها. وبموجب ذلك، افترض والتون وجود صلة مهمة بين عالم الكتاب المقدس وعالم الشرق الأدنى القديم، وأشار إلى أنه، على غرار أدب الشرق الأدنى القديم، تساعد القصص المدوَّنة في الإصحاحات 1-11 قُرًّاءها في فهم ما كان بنو إسرائيل يؤمنون به عن أنفسهم، وعن عالمهم، وعن آلهتهم. كذلك، يؤكد الإنجيليون المؤيدون لأسطورية الجزء الأول من سفر التكوين أن نص الإصحاحين 1 و2 ليس من نوع السرد القصصي، وأنه لا يكترث بالتسلسل الزمني، مؤكدين بهذا أن قصة الخلق الكتابية كُتِبت على خلفية نظرية عن أصل الكون كانت شائعة في الشرق الأدنى القديم، وأنها ألمحت إليها (تلك النظرية التي كانت موجودة في المقام الأول في بلاد ما بين النهرين). كان هؤلاء العلماء محقين في اعتقادهم بأن كُتَّاب الكتاب المقدس (أي كُتَّاب مختلف القصص الكتابية التي تتعلق بالخلق) افترضوا أمورًا بشأن طبيعة الحياة (أي بشأن الله، والعالم، وطبيعة البشر، ودورهم في ذلك العالم) تختلف اختلافًا واضحًا عن تلك الموجودة في عالم الشرق الأدنى القديم؛ غير أنهم يؤكدون أن تلك الافتراضات مغروسة مع ذلك في اللغة الأسطورية لذلك العصر. وافترض لونجمان (Longman) أن كُتَّاب الأسفار الكتابية استخدموا إحدى أساطير أو أحد تقاليد الشرق الأدنى القديم، واضعين نسمة الله محلَّ إما بصاق الإله وإما دمه، مستنتجًا أن هذا عبَّر عن حقيقة أن البشر مخلوقات متصلة بالتراب، وأنهم كائنات تتمتع بعلاقة خاصة مع الله.
تكوين 1-2 تاريخ:
العديد من الإنجيلين أيضًا -سواء الذين يفسرِّون تفاصيل الإصحاحين الأول والثاني من السفر تفسيرًا حرفيًا (الأرض حديثة العهد)، أو تفسيرًا غير حرفي (الأرض القديمة)- يرفضون اعتبار هذه الإصحاحات أسطورية. وتؤيِّد عدة براهين الرأي الذي يعتبر الإصحاحات 1-11 تاريخًا.
أولًا، ينبغي أن يكون المرء قادرًا على تطبيق منهجيته التفسيرية بطريقة متسقة وموحدة على الإصحاحات 1-11، وكذلك على بقية السفر. والعديد من علماء النقد وجميع العلماء الإنجيليين -سواء الذين يَعتبرون الإصحاحات 1-11 جميعها، أو فقط الإصحاحين الأول والثاني، أسطورة- يعتبرون الإصحاحات 12-50 سردًا تاريخيًا، على عكس رأيهم بشأن الإصحاحات الأولى من سفر التكوين. لكن، على غرار (تكوين 12-50)، كُتبت الإصحاحات 1-11 في شكل قصصي واضح، وليس في شكل شعري. ولذلك أهمية، لأن غالبية الذين يدافعون عن الفهم الأسطوري للإصحاحات 1-11 يعتبرون الإصحاحين 1 و2 من السفر أدبًا شعريًا.
ثانيًا، يبدو أن افتراض والتون أن قصة الخَلق الكتابية (على غرار أساطير الشرق الأدنى القديم) تعلِّم ما كان بنو إسرائيل يؤمنون به عن أنفسهم، وعن العالم المحيط بهم، هو افتراض ينطوي على سوء فهم لطبيعة الكتاب المقدس، ولا سيما الإصحاحان 1 و2. وهذا مثال على أن تحديد النوع الأدبي لمقطع ما يؤثر تأثيرًا كبيرًا على تفسير هذا المقطع. صحيح أن الأساطير تَعرض ما يؤمن به شعب أو مجتمع ما عن أمر ما، غير أنه إذا كان هذان الإصحاحان سردًا قصصيًا، فهما إذًا لا يعرضان ما تؤمن به إسرائيل عن نفسها، بل بالأحرى يصرِّحان بما أراد الله أن يُخبر به شعبه عن تلك الأحداث والشخصيات القديمة.
ثالثًا، مع أنه يبدو أنه توجد بالفعل أوجه شبه بين القصص الكتابية وروايات الشرق الأدنى القديم عن الخَلق والطوفان، افترض الكثير من العلماء أن الرواية الكتابية تلمِّح إلى أساطير الشرق الأدنى القديم لأغراض انتقادية أو هجومية. قال ماثيوز (Mathews): «بدلًا من تبنِّي الرأي القائل إن سفر التكوين استقى من الأساطير القديمة، أو عَرَضها على أنها تاريخ، سيكون أكثر إنصافًا أن نقول إن سفر التكوين أقرب إلى أن يكون نَبذًا للأفكار الوثنية عن أصل الأشياء، وعن الجنس البشري، والحضارة والطوفان… لم تكن قصص سفر التكوين هجومًا صريحًا، لكنها بوجه عام، وبحسب ما يمكن استنتاجه، تقوِّض الأساس الفلسفي للأساطير الوثنية.»
رابعًا، على الرغم من إدراك مؤيِّدي الرأي الأسطوري لوجود اختلافات بين روايات الشرق الأدنى القديم وروايات الكتاب المقدس عن الخَلق والطوفان، إلا أنهم يركزون على أوجه الشبه، ويقللون من شأن أوجه الاختلاف. ويقدم مؤيدو الرأي الأسطوري العديد من الجداول التوضيحية التي تقارن بين قصص الخلق والطوفان في كل من الكتاب المقدس والشرق الأدنى القديم. وبحسب الظاهر، تبدو أوجه الشبه في هذه القوائم مقنعة. لكن عندما نقرأ المقاطع جنبًا إلى جنب، نخلص إلى استنتاجات مختلفة تمامًا.
(من كتاب “العالم والكلمة”)