د. أماني ألبرت
تدور القصة في مدينة شوشن عاصمة بلاد فارس في عهد الملك “أحشويروش” المعروف باسم زركسيس الأول الذي حكم 127 مملكة.
(شبنة هو ابن عم الطفلة التي ماتت أمها أثناء ولادتها وسبقها أباها، اتفق شبنة مع عمته رفقة أن تسمى الطفلة اليتيمة هداسا… كانت العمة “رفقة” هي الأم الروحية لكل أبناء عشيرتهم.. أضاع “أبيحائل” والد الطفلة، قبل مماته ثروته مع تجار غرباء ولم يحتمل الخيانة فمرض..
وبسبب علاقة شبنة (مردخاي) بهذه الطفلة الصغيرة التي غزت محبتها قلبه، أعاد اكتشاف نفسه. فقد وجد أنه ما زال قادرًا على العطاء والحب والاهتمام.. واختبر مشاعر من نوع جديد أضفت الحيوية والانتعاش على حياته. تطورت العلاقة بين شبنة والطفلة الصغيرة وأصبح يخاف عليها من أي شيء.. (يمكنك قراءة الحلقات السابقة على موقع الجريدة..)
– هيا هداسا، ستتأخرين.
– حالاً، عمتي… سأكون قد انتهيتُ بوصول “يديدة” (“يديدة” هي حفيدة العمة “رفقة” وصديقة طفولة هداسا وكاتمة أسرارها، ذات شعر بني غامق يصل إلى كتفها، وعينين بنيتين، لها وجنتان تحملان غمازتين ورثتهما عن جدتها، وذقن صغير. ) هل تريدين شيئًا آخر من السوق؟
– لا … ولكن لا تطيلي بقاءك… اشتروا المطلوب وتعالوا مسرعين… لا داعي لفحص كل جليبة التجار… ولا تنفقي في شيء لا حاجة لنا به.. “عماسا” سيرافقكم ليحمل الأشياء.
– كلا، عمتي. هل نحتاج حارس؟ لن نحتاج مرافقة “عماسا”. لن نحمل شيء ثقيل.. نريد أن نتحرك دون تعليمات.
نادت العمة “رفقة” بصوت عال وكأنها لم تسمع الجملة الأخيرة:
– “عماسا”… “عماسا”… أين أنت؟
رد “عماسا” بهدوء من خلف الشباك معلنًا استعداده للذهاب.. فقد كان واقفًا ويبدو أنه سمع حديث “هداسا”..
نظرت “هداسا” للعمة “رفقة” نظرة عتاب.. وقد احمرت وجنتاها خجلاً ثم خرجت في صحبة “عماسا” بعد وصول “يديدة”.
توجهت الفتاتين نحو السوق، كأنهما ذاهبتان إلى رحلة… فقد استمتعتا بالتبضع والشراء أو حتى مشاهدة الجديد القادم من كل أنحاء العالم… ولما كانت العمة “رفقة” غير قادرة على الحركة الكثيرة الآن بسبب سنها… كانت الفتاتان تنتظران هذا اليوم بفارغ الصبر. لم يكن يعكر صفوة إلا وجود “عماسا” معهما.
فقد كان لديهما تطلع لرؤية العالم… كان السوق منفذًا مصغرًا يحاكي الإمبراطورية العصرية التي ضمت كل الجنسيات، فهو يعرض بضاعة الشعوب من كل البلاد. الأدوات والحيوانات القادمة من بعيد والفاكهة والخضروات والأعشاب العطرية، وأهم شيء بالنسبة لهما الأقمشة والحلي.
لم تشعرا بالوقت وهما تتسوقان وتشاهدان كل ما هو جديد… رغم أن “عماسا” كان يستعجلهما طوال الوقت، إلا أنهما لم تجدا بُدًا من أن تلهياه بقصص مختلفة حتى يتوقف عن التململ.
وفجأة سمعوا صوت لحن موسيقى غريب لم يعتادوا عليه… تحركوا نحو مصدر الصوت كالباقين إلى أطراف السوق لمعرفة ماذا يحدث.
رأوا من بعيد رايات سوداء مرفوعة على القصر، فقد كان مبنيًا على مرتفعة، فيما وقف العازفون على أسواره بآلات النفخ، فيما انطلقت دفعات كبيرة من راكبي الخيل لابسين ملابس وعمامات سوداء وخلفهم كتائب من عازفي الناي والمنادين ينادون:
– مات الملك العظيم “داريوس”… مات ملكنا العظيم “داريوس”
فأصيبت المدينة بحالة من الارتباك.. وكذلك الفتاتين و”عماسا” الذي تحرك معهما بسرعة نحو المنزل.
*********
بينما هما عائدتان في طريقهما لمحتا “آساف” من بعيد ويبدو أن الأخبار كانت قد وصلته هو أيضًا ..
“آساف” هو حفيد “شمعون”.. وهو فتى وسيم، ذو بنية جسدية قوية، متوسط الطول، ذو شعر بني ناعم وعينان رماديتا اللون، وبشرة مائلة إلى السمار..
ورغم أن حرفة عائلته صناعة الخزف إلا أنه كان يمارس هذه المهنة بامتعاض، وبحسب قوله: “لم يجد نفسه فيها”. كانت لديه ميول في الزراعة وأعمال البستنة… وبسبب عبقريته في توفير بيئة مناسبة للنباتات استعانت به العمة “رفقة” في زراعة بعض الأعشاب النادرة… ورغم أن أسرته لم توافقه أبدًا على ترك مجال صناعة الخزف لكنه عرف أنه سيكون له شأن يومًا ما في أعمال البستنة.
يبدو أن “آساف” خرج بحثًا عنهما، لكنه لم يصرح بهذا وتظاهر أنه أراد شراء شيء ما من السوق وفوجئ بسماع الأخبار.
رجع الجميع -“هداسا” و”يديدة” و”آساف” في صحبة “عماسا”- مسرعين وقد انتشرت الأخبار هنا وهناك وأثيرت التساؤلات موجهة أعين شعب الإمبراطورية الواسعة نحو الملك القادم… مَنْ سيكون؟
انتظروا مع غيرهم موعد مجيء “مردخاي” من القصر… وقابلوه وهو قادم في الساحة ليعرفوا مَنْ سيكون الملك.
وبينما يقترب “مردخاي” همّ “العازار” بالحديث وهو متكئ على عكازه:
– ماذا يا “مردخاي”؟ المدينة مرتبكة بسبب خبر وفاة “داريوس” الملك… هل من جديد؟
– نعم، يبدو أن الملك الجديد سيجعل من “شوشن” عاصمة الإمبراطورية… ويبدو أنه سينقل إقامة قصره من “برسيبوليس” (كانت برسيبوليس عاصمة الإمبراطورية في ذلك الوقت، وتميزت أبنيتها بأنها كانت كأنها خيام مكشوفة ولكن بالحجر. والأعمدة الحجرية الضخمة مستوحاة من ذاكرة الأعمدة الخشبية التي تدعم أغطية الخيام انعكاسًا لطبيعة الحياة البدوية التي نشأ عليها آباؤهم الأوائل.) إلى هنا.
– وكيف عرفت؟
– التجهيزات اليوم في القصر كانت على قدم وساق… يبدو أن احتفال تنصيبه ملكًا سيكون هنا… فالملك الجديد يحتاج إلى عاصمة رسمية جديدة.
– وماذا سيحل ببرسيبوليس؟
– لا شيء. يقولون إنه سيستكمل أعمال التشييد التي بدأها أبوه .
– ولكنها مكان لا يُعَوَّض، موقعها فريد، وجدران القصر طويلة تتجاوز 18 متر وبسمك 10 أمتار، وتمتلئ بقاعات لها أعمدة فاخرة، وبها “أبادانا” القاعة الاحتفالية لـ “داريوس” الملك. هل سيفعل مثل هذا هنا؟
– لا أعلم، ولكني أعلم أن “شوشن” ستكون العاصمة الجديدة ومقر الملك… الملك قادم إلينا… ومَنْ يعلم ما السبب… فالله يحرك كل الأحداث لخيرنا… ويبدو أن الأمر سيتم بأسرع وقت ممكن.
– ولكن الحرارة شديدة في أكتوبر والجو لا تناسبه مثل هذه الاحتفالات.
– لا… هم يستعدون بأقصى سرعة… لا يمكن تأخير تجليس الملك على الأقل حفاظًا على الإمبراطورية الممتدة من الثورات.
أتى “شمعون” بخطوات مسرعة…
– “مردخاي” أخبرني… ما سبب موت “داريوس”؟ هل كانت هناك مؤامرة لقتله؟
– كلا ، يبدو أنه مات مقهورًا بعد هزيمته في اليونان.
رد “أليعازار” بحزن وهو يفرك لحيته البنية الكثيفة:
– نعم، فهزيمته في “ماراثون” كانت قاسية… ولكن ترددت أنباء أنه كان يعد لحملة أخرى على بلاد اليونان.
أجابه “مردخاي” بصوت أسيف:
– يقولون إنه مرض مرضًا شديدًا مات على أثره… لعله لم يتجاوز الخامسة والستين من العمر.
– وعلى مَنْ وقع الاختيار لتولي أمور المملكة من أبنائه الـ 18؟
– ابنه “أحشويروش”.
– ما هذا؟ أليس “أرتوبازان” الابن الأكبر هو الأحق بعرش والده؟
– نعم… ولكنه لا يصلح لتولي الإمبراطورية فأمه من عامة الشعب… ويبدو أن الأمر كان محسومًا من قبل لأنه هذا أُعلن مباشرةً بعد موته.
– إذًا “أحشويروش” هذا ابن “أتوسا” ابنة “كورش” مؤسس الإمبراطورية؟
– نعم.
– هل رأيته؟
– كلا… يقولون إنه شاب أربعيني طوله حوالي سبعة أقدام وحاد الملامح ويشبه جده “كورش”.
رد “شمعون” بتحفظ مقطبًا حاجبيه الكثيفين:
– السؤال الأهم… كيف سيؤثر هذا علينا؟ على تجارتنا؟ على أمننا؟
– لا أظن أنه سيؤثر… هنا أكثر مكان تجد فيه حرية عقائدية، نحن نعيش في إمبراطورية مدنية، أخذت مزيج عادات الأمم الأجنبية… فالملابس الرسمية من المديانيين.. وفي الحرب يلبسون الصدرة المصرية.. وهم يقلدون اليونانيين في تعدد الزوجات والمحظيات.
– ليس هذا ما أقصده “مردخاي”… أنا أقصد العائدين من السبي… إخوتنا… هل يمكن أن يؤثر هذا عليهم؟
– هذا لا يقلقني… الملك مضطر أن يتبع نفس سياسة أبيه الذي كان ذكيًا ليوفر الحرية الدينية للجميع… وإلا قامت الثورات المتتالية في كل أنحاء الإمبراطورية.
يُتبع