حازم عويص
نفهم مما هو مكتوب في الكتاب المقدس أن صعود المسيح إلى السماء كان صعودًا حقيقيًا بالجسد. لقد ارتفع من الأرض تدريجيًا وقد رآه الكثيرين الذين كانوا موجودين هناك. وكانت عيون التلاميذ شاخصة إليه لعلها تستمر في رؤيته، لكن أخفته سحابة عن أعينهم، وظهر ملاكان ووعداهم بعودته مرة أخرى «أيها الرجال الجليليون، ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء؟ إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقًا إلى السماء» (أع1: 11).
ولنعد إلى قبل ذلك، فبعد قيامة المسيح من الأموات “أَراهم أَيضًا نفسهُ حيًا” (أع1: 3) للنساء عند القبر (مت28: 9-10)، ولتلاميذه (لو24: 36-43)، ولأكثر من 500 آخرين (1كو15: 6).
بعد قيامته بأربعين يومًا، ذهب الرب يسوع وتلاميذه إلى جبل الزيتون، قرب أورشليم. وهناك وعد تلاميذه أنهم ينبغي أن يستعدوا لاستقبال الروح القدس، وأوصاهم أن يمكثوا في أورشليم حتى يحل عليهم. ثم باركهم. وبينما هو يباركهم، بدأ يرتفع إلى السماء. وقصة صعود المسيح مسجلة في (لو24: 50-51؛ وأيضًا أعمال الرسل1: 9-11).
الصعود كان علامة على نهاية خدمته على الأرض، وكان علامة على نجاح عمله. لقد أتم وأكمل كل ما جاء ليعمله، عودته للمجد السماوي إشارت إلى تمجيد الآب له (أف1: 20-23). كان هو “الذي سر به الآب” (مت17: 5) وقد قبله في مجد وإكرام وأعطاه اسمًا فوق كل اسم (في2: 9). لقد ذهب ليعد لنا مكانًا (يو14: 2). ويمارس بداية عمله الجديد كرئيس الكهنة ليشفع فينا كمؤمنين (عب4: 14-16).
الصعود تمهيد لعودة المسيح ثانيةً كما قرأنا في بداية المقال الشاهد من سفر الأعمال: “إن يسوع هذا الذي رفع عنكم إلى السماء سيأتي كما رأيتموه ذاهبًا إلى السماء” (أع1: 11). وهذه العبارة تقيم ارتباطًا وثيقًا بين ارتفاع المسيح إلى السماء وبين عودته ثانية في آخر الأزمنة، حينذاك سيأتي كما انطلق، نازلًا من السماء (1تس4: 16) على السحاب (رؤ14: 14- 16)، بينما يصعد المؤمنون لملاقاته، هم أيضًا (1تس4: 17). فالتاريخ يتحرك نحو نقطة محددة هي مجيء الرب يسوع المسيح ثانية ليدين العالم، ويملك على كل المسكونة. وينبغي علينا، أن نكون مستعدين لمجيئه المفاجئ (1تس5: 2).
وجدير بالذكر أن السحاب ارتبط بظهور الرب ومجده. فقد ظهر مثلاً على جبل سيناء عند حلول الله وحضوره وسط الشعب (خر19: 16)، وكان عمود السحاب يتقدم الشعب في مسيرته (خر13: 21)، والسحاب ملأ البيت لأن مجد الله حل فيه (2أخ5: 14)، وفي حادثة التجلي جاءت سحابة نيرة وظللتهم (مت17: 5). فالسحاب وهو المرتفع عن الأرض إشارة إلى السماء فكان منطقيًا أن يظهر في صعود الرب إلى السماء، وستكون السحب هي العلامة التي تظهر في السماء عند المجيء الثاني للرب “هوذا يأتي مع السحاب وستنظره كل عين” (رؤ1: 7).
علينا أن نلاحظ أنه قيل عن المسيح إنه أُصعد إلى السماء لأن الوحي يُراعي ارتفاعهُ كإنسان بحيث أن الله أصعدهُ ومجدهُ. وأما في بعض المواضع الأخرى في (أف8:4، 9) مثلًا فقيل: أنهُ صعد بحيث الإشارة إلى مجدهِ الشخصي.
يقول أغسطينوس في رده على هرطقة الأريوسيين: الرب لم ينقص شيئًا بسبب تجسده كذا لم يزد شيئًا في صعوده، لا هو قل في تجسده ولا هو كثر في صعوده، فمجده لم ينقص حينما أخذ جسدًا بشريًا، ولا هو أخذ مجدًا ليس له حينما صعد إلى السماء فإنه أي المسيح جلس عن يمين العظمة أي الآب [الرد على هرطقة أريوس- “شرح (عبرانيين1: 3) لأغسطينوس”].
الصعود يجعل المسيحي الحقيقي يحيا منذ الآن في حقيقة العالم الجديد الذي يملك المسيح فيه. إن المومنين وهم في انتظار تلك الساعة، هم من الآن متحدين بسيدهم الممجد، وهم يطلبون الأمور التي فوق ومدينتهم كائنة في السماوات. لا نقول إننا يجب أن ننسلخ عن العالم، بل نقول إن لنا رسالة في العالم وعلينا أن نحيا فيه بطريقة جديدة، تقود الناس إلى معرفة المسيح الممجد. فالخطية والخوف والرعب والمعاناة على الأرض ليس لها الكلمة الأخيرة. سيعود الرب يسوع بالمجد والبهاء ويبسط سيطرته على ممالك هذا العالم.
يقول وليم ماكدونالد معلقًا على الآية: «وبالإجماع عظيمٌ هو سر التقوى: الله ظهر في الجسد، تبرر في الروح، تراءى لملائكة، كرز به بين الأُمم، أُومن به في العالم، رُفع في المجد» (1تي3: 16).
يجمع المفسرون على أن العبارة «رُفع في المجد» تشير إلى صعود المسيح إلى السماء بعد أن أكمل عمل الفداء، وإلى مقامه الحالي هناك. يشير فنسنت Vincent إلى أنه ورد «رُفع بالمجد» (وليس في المجد)، أي “بكل مظاهر الأبهة والعظمة، كما يصح في قائدٍ عسكري مظفر” يرى بعضهم هذه القائمة من الأحداث بحسب تسلسلها الزمني. فيعتبرون، مثلاً، أن «ظهر في الجسد» تشير إلى التجسد؛ وتبرر بالروح تشير إلى موت المسيح، ودفنه، وقيامته؛ وتراءى لملائكة تصف صعوده إلى السماء؛ وكُرز به بين الأمم وأومن به في العالم. هي الأحداث التي تلت صعوده، وأخيرًا رُفع في المجد تتحدث عن يوم آتٍ فيه يُجمع مفديوه جميعهم، ويُقام الراقدون من الأموات، ويُدخلون المجد معه.
فهذه الآية، في بساطتها، تحوي حقًا عظيمًا، لأنها تتضمن أسرارًا لا حصر لها، ولأنها تشمل كل مراحل حياة المسيح، مِن تجسده إلى صعوده.
أيقن التلاميذ أن الذي رُفع وأُخذ بعيدًا عنهم وهو حي، لن يكون أمامهم بالجسد بعد الآن، بل في داخلهم. وسيبقى معهم طوال الأيام إلى انقضاء الدهر: “وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر.” (مت28: 20). عرف الرسل أن الصعود ليس ذهابًا وفراقًا بل إنه اختفاء إن جاز التعبير، من أجل حضور أشمل وأعمق وأبقى. كما عرفوا أن السحابة التي حجبت الرب يسوع عن أنظارهم هي حجاب مؤقت سيزال ساعة يشاء الله فيرونه. وهذا الاكتشاف لمع أمام عيونهم وولد في نفوسهم فرحًا عظيمًا. إذ علموا أن الصعود بداية حلول الروح القدس وبالتالي يكون الفراق بداية التحام أشد وأقوى بالمسيح.