القس رياض قسيس
أسندوني بالتفاح..
أنا مريضة حبًا.
ها أنتِ جميلة يا حبيبتي
ها أنتِ جميلة… عيناك حمامتان من تحت نقابك.
شفتاك يا عروس تقطران شهدًا
تحت لسانك عسل…
ورائحة ثيابك كرائحة لبنان.
ما أجمل رجليك بالنعلين يا بنت الكريم…
عنقك كبرج من عاج…
أنفك كبرج لبنان الناظر تجاه دمشق
قامتك هذه شبيه بالنخلة
وثدياك بالعناقيد…
هذه الأبيات ليست للشاعر عمر الخيام، ولا لعمر بن أبي ربيعة، ولا للشاعر نزار قباني. ولكن هل يُعقل أن ترد هذه الأبيات الغزليَّة في الكتاب المقدس؟ قد تعتريك الدهشة وتشعر بالاستغراب الشديد عندما تعلم أن هذا المقطع هو من الشعر العبري في سفر نشيد الأنشاد، وهو في قلب أسفار الكتاب المقدس، كلمة الله الحية المقدسة!
كتب الأستاذ جود أبو صوان: «يا رجال الكنيسة… هل الحكمة (حكمة سليمان) هي في مجون كلمات كتاب نشيد الأنشاد وفي فيض التهتك الذي تفخر التوراة بذكره في هذا النشيد؟ روى لي أحد رؤساء الأديار الفاضلين أنه يوم كان راهبًا فتيًّا كان يُحرَّم على جميع الرهبان قراءة نشيد الأنشاد، نظرًا لما يحتويه من تهتك وإباحية في وصف المرأة، فكان الرهبان الشبان يتفحصون بالسر تفجيرًا لكبتهم الجنسي ولتصوراتهم الغرائزية.» وينتقد كاتب آخر، حقق كتابه شهرة كبيرة، سفر نشيد الأنشاد بأن لغته إباحية، ولا تجوز قراءته إلا من قِبل البالغين.
إن سفر «نشيد الأنشاد» يعني «أفضل الأناشيد»، وهو أحد الكتب الشعرية في العهد القديم، ويُنسب إلى سليمان الحكيم. وقراءة هذا السفر، وخاصةً الآيات التي تتحدث عن وصف أعضاء الجسد (على سبيل المثال، اقرأ 4: 1-7؛ 5: 10-16؛ 6: 4-10؛ 7: 1-9؛ 8: 10)، تدفع الكثير من القراء العرب إلى الاستهجان والتعجب والقيام بمحاولات عِدَّة لفهمها وتفسيرها. فما هي أهم تلك المحاولات أو المواقف؟ هناك ثلاثة مواقف رئيسية هي:
1- موقف تأويل المعاني الظاهرة: وذلك عن طريق الاعتقاد بأن هدف هذا السفر ليس كما يبدو للعيان من القراءة السطحية له، بل هو نبوءة عن موقف المسيح وعلاقته بالكنيسة، فالعريس في نشيد الأنشاد هو المسيح والعروس هي الكنيسة.
2- موقف الرفض: اعتقد البعض أن الموقف السابق هو موقف نابع من رغبة في التهرب من مواجهة الحقيقة الجليَّة، وأن هذا السفر قد سقط سهوًا ضمن بقية أسفار الكتاب المقدس، وحيث إن لغته وتعابيره تقترب إلى حد الإباحية، فالوسيلة الأسلم هي تجنُّبه وبالتالي رفضه.
3- موقف الحيرة والارتباك: من الواضح أن هذا السفر لم يسقط سهوًا في الكتاب المقدس، وقد قبلته الكنيسة المسيحية منذ تكوينها واعترفت بقانونيته. ومن الواضح أيضًا أنه يصعب جدًا (لا بل يستحيل) البحث عن تأويل كلمات مثل: الشفة والسرة والبطن والثدي والعنق والأنف… لوصف الكنيسة بها.
إذًا ما العمل؟ وكيف نستطيع معرفة ما يعنيه هذا الكتاب؟
من الضروري أن نستعرض، ولو بإيجاز، تاريخ تفسير هذا السفر في الدوائر اليهودية والمسيحية، وذلك قبل محاولة الإجابة على السؤال الأخير الذي يطرحه أصحاب موقف الحيرة والارتباك. برزت في تاريخ الكنيسة ثلاثة مناهج تفسيرية لسفر نشيد الأنشاد، أستعرضها باختصار فيما يلي ثم أعمل على تقييمها:
المنهج الأول: التفسير المجازي الاستعاري
يتغاضى هذا النوع من التفسير عن الحقائق التاريخية، وينظر إلى معنى باطني أو خفي للكلمات. وبالرغم من أنه لا يوجد لدينا دليل تاريخي كافٍ عن قِدم هذا التفسير في ما يخص سفر نشيد الأنشاد، فإن هذه الطريقة في التفسير هي الغالبة لدى مفسري اليهود قديمًا. ففي حوالي عام 100م، أدان الرابي اليهودي عقيبة كل مَنْ يفهم سفر نشيد الأنشاد بأنه قصيدة حب بين رجل وامرأة. كان الاعتقاد السائد عند مفسري اليهود بأنه يمثل العلاقة بين الرب وإسرائيل، فمثلًا شرح معنى «الثديين» هو أنهما زينة المرأة وجمالها، وكذلك موسى وهارون هما زينة وجمال إسرائيل!
واعتمد القديس أوريجانوس (185-254م)، وهو أحد آباء الكنيسة، هذا المبدأ التفسيري متأثرًا بالفلسفة الهلينية والفكر الأفلاطوني، وربما كان السبب في ذلك هو اعتقاد تلامذة الفكر الأفلاطوني والفلسفة الغنوسية بأن الأمور المادية والجسدية شر ينبغي اجتنابه والابتعاد عنه إذا أردنا البلوغ في الحياة الروحية. وتبع أوريجانوس في تفسيره القديس غريغوريوس الكبير (540-604م)، وهو راهب يتبع النظام البندكتي وقد أصبح فيما بعد أحد باباوات روما.
وفي القرون الوسطى، كان سفر نشيد الأنشاد موضوعًا لكتابات عديدة، ومادة خصبة لعظات وتأملات فاقت ما كُتب عن أسفار أخرى في العهد القديم. وكان روبرت الديوتزي (حوالي عام 1129م) أول المفسرين الذين طبَّقوا صورة العروس في سفر نشيد الأنشاد على العذراء المباركة القديسة مريم.
وبالرغم من محاولة المصلح الإنجيلي مارتن لوثر (1483-1546) تخطي ما وصل إليه الأقدمون، فقد اعتقد أن العريس هو صورة مجازية لله والمرأة صورة مجازية لمملكة سليمان (وأحيانًا للكنيسة أو النفس البشرية). ودافع المصلح الإنجيلي جون كالفن (1509-1564) عن الاعتقاد بأن سفر نشيد الأنشاد هو نبوءة شعرية عن اتحاد المسيح والكنيسة. إن أسلوب لوثر وكالفن في التفسير يجمع في الحقيقة بين التفسير المجازي الاستعاري وبين التفسير الرمزي، وهو التفسير الذي أتناوله الآن.
المنهج الثاني: التفسير الرمزي
يختلف هذا النوع من التفسير عن التفسير المجازي الاستعاري في أنه يقرُّ بوجود حقائق تاريخية معينة واردة في النص، ولكنه يجتهد في إيجاد موازٍ أو مكافئ لذلك في العهد الجديد. فمثلًا، كما أن آدم يمثل رأس الجنس البشري الساقط فهو يرمز للمسيح الذي يمثل رأس الجنس البشري المخلّص (رو5: 14). والحية النحاسية هي رمز للمسيح الذي رُفع على الصليب لنجاة العالم (يو3: 16-19). ويستخدم الأخ متى بهنام، مؤلف كتاب “خمائل الطيب” الصادر عن مكتبة كنيسة الإخوة بمصر، التفسير الرمزي والتفسير المجازي الاستعاري معًا. وهو يرى أن السفر يشير بالأولى إلى علاقة الله بإسرائيل، ولكنه بدرجة ثانية يشير إلى علاقة الله بالكنيسة المسيحية.
المنهج الثالث: التفسير الطبيعي أو الحرفي
بموجب هذا النوع من التفسير، يتم فهم الكتاب كما يبدو بالطبيعة، فهو عبارة عن مجموعة من قصائد الحب الرقيقة التي تتحدث بصراحة ووضوح عن المشاعر العميقة والرغبات والأحاسيس الصادقة والاهتمامات والآمال والمخاوف التي تظهر بين حبيبين. وبالرغم من اتفاق أصحاب هذا التفسير على كيفية فهم السفر إلا أنهم يختلفون بشأن خلفيته أو شكله الأدبي، فيعتقد البعض أنه على شكل مسرحية. وقد بدأ هذا الاعتقاد مع القديس أوريجانوس، واستقطب عددًا من المفسرين في القرن الماضي والذين قارب بعض منهم بين نمط الأعراس في القرى السورية وبين ما جاء في سفر نشيد الأنشاد. أما البعض الآخر فيعتقد بـ «فرضية الراعي»، وملخصها أن شولميث تحب راعيًا فقيرًا، ويحاول سليمان الملك أن يجتذبها ويغريها بممتلكاته وهداياه، ولكنها تبقى أمينة ووفية لحبيبها الراعي.
ويبدو أن أصول الفن المسرحي لا تؤيد فكرة اعتبار السفر على أنه مسرحية، لأننا نجد فيه الحوارات الطويلة، والنقص الواضح في تطور الشخصيات، والضعف في الحبكة المسرحية، كما أن عناصر شد انتباه القارئ أو المشاهد ليست قوية.
أما «فرضية الراعي» فهي غير مقبولة عمومًا، ولكن لها مؤيداتها، فسليمان لم يكن مثالًا للزواج المثالي (كانت له 700 امرأة و300 جارية، انظر سفر الملوك الأول 11)! وهذه الفرضية يعتمدها مؤلف كتاب “نشيد الأنشاد في التفسير الحديث للكتاب المقدس” والذي صدر عن دار الثقافة بالقاهرة.
لم يكن التفسير الطبيعي باديًا بصورة واضحة في تاريخ الكنيسة، ولكن كانت هنالك بعض الأصوات التي دعت إليه. فقد اعترض ثيودور، أحد أساقفة كيليكية (392-428م)، على طريقة أوريجانوس في التفسير، واعتقد أن السفر هو عبارة عن قصيدة حب كتبها سليمان ردًا على اعتراض البعض على زواجه من امرأة سوداء البشرة. وقد أدين ثيودور في المجمع الثاني الذي عقد في القسطنطينية عام 553م، وذلك لاعتقاده بأنه لا مكان لهذا السفر بين أسفار الكتاب المقدس. وفي تاريخ التفسير اليهودي للسفر، كانت ثمة محاولات لتجاوز التفسير المجازي الاستعاري ولو بصورة جزئية، مثل محاولة موسى بن ميمون (1135-1204) وإسحق أبربنل (1437-1508)، وإن لم يلقيا النجاح. وفي القرن السادس عشر، دافع إيراسموس عن رأي ثيودور. وشهدت القرون التالية للإصلاح نزعة نحو التفسير الحرفي للسفر. ومن هؤلاء المفسرين، أذكر على سبيل المثال هيغو كروتيوس وبوسيت ولوث وكارل بودي.
تقييم للمبادئ التفسيرية لنشيد الأنشاد
من مخاطر منهج التفسير المجازي الاستعاري عدم وجود قاعدة محددة وضوابط معينة ليتم التفسير على أساسها. فما يفسره عمرو من الناس قد يختلف اختلافًا كليًا عما يراه زيد. وبذلك فإن المعنى الحقيقي لنص كلمة الله يكاد يُفقد بين اجتهادات المفسرين.
وليس منهج التفسير الرمزي بمنجاة من هذه المخاطر، ولا ينبغي الاعتقاد بأنه لدينا الحرية أن نفسر رموز العهد القديم كما نشاء. إن ضوابط هذا التفسير ينبغي أن تكون حسب العهد الجديد، فإذا كان العهد الجديد يسمح لنا بفهم صورة ما أو تعبير ما في العهد القديم على أنه رمز ويقدم لنا بعض الإرشادات الواضحة لمعرفة المرموز إليه في العهد الجديد فإننا لا نملك الحق باكتشاف ما نريد من الرموز.
لقد أشرتُ في بداية حديثي إلى اقتباس من كتاب الأستاذ جود أبو صوان، وأعتقد هنا أن أولئك الرهبان فهموا بحق معنى نشيد الأنشاد! وعليه، يبدو لي أن التفسير الطبيعي، أي فهم النص كما هو بحسب الظروف التاريخية ووقائع الأحداث المترافقة التي كُتب فيها واللغة التي كُتب بها، هو أفضل الطرق وأكثرها أمانةً وأمانًا.
وهنا قد يظهر الاعتراض: «هل تعني أن سفر نشيد الأنشاد يتحدث عن علاقة حب ويصف المحاسن الجسدية للمرأة؟» حاشا أن يكون ذلك وأن يُدوَّن ذلك في الكتاب المقدس.
مهلًا يا صديقي. اسمح لي أن أوجه لك بعض الأسئلة، والتي أتوقع منك جوابًا إيجابيًا عليها:
– هل يهتم الله بكل نواحي حياتنا من روحية وجسدية ونفسية وعاطفية؟
– ألم يخلق الله أجسادنا وقال عن خليقته إنها حسنة جدًا؟
– ألا يعلِّم الكتاب المقدس بضرورة المحبة الصادقة الطاهرة بين الزوجين؟
– ألا ينبغي على الزوجين استخدام تعابير شاعرية رقيقة لوصف محبتهما لبعضهما البعض؟
– هل حاولت مرة كتابة قصيدة أو قراءة قصيدة حب لزوجتك ولم يكن ردها إلا إيجابيًا؟
إن أول قصيدة حب كُتبت في العالم كانت عندما قال آدم لحواء: «هذه المرأة هي عظم من عظامي ولحم من لحمي» (تكوين 2: 23). أطربت هذه الكلمات أذني حواء فكان العرس السعيد الأول في أول سفر من أسفار الكتاب المقدس! ويُختتم الكتاب المقدس بعُرس سعيد آخر في سفر الرؤيا (إصحاح 22). وبين أول عُرس وآخر عُرس، يضم الكتاب المقدس بين صفحاته المبادئ التالية:
– أجسادنا هي عطية الله لنا فلا ينبغي احتقارها ولا إذلالها ولا ترك العنان لشهواتها.
– الجنس عطية الله للإنسان للشركة والتكاثر والمتعة، فهو ليس شرًا في حد ذاته وإن نتج الشر عن سوء استخدامه.
– لقد وضع الله بحكمته ولصالح الجنس البشري شريعة الزواج بالارتباط بين رجل وامرأة واحدة مدى الحياة.
وضمن إطار هذه العلاقة الزوجية، يتم التمتع بالعلاقة الجنسية التي تشكل فيها عبارات الحب، مثل تلك الموجودة في سفر نشيد الأنشاد، أساسًا لا غنى عنه.
وكأن سفر نشيد الأنشاد يقول لنا:
«أيها الشباب والشابات، إن ممارسة الجنس والحب الشديد إلى حد الهيام هي ضمن إطار الزواج.»
«أيها الأزواج والزوجات، أحبوا بعضكم بعضًا بكل ما في قوة في المحبة. “لأن المحبة قوية كالموت ومياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ المحبة والسيول لا تغمرها.”» (نش8: 6 و7)
«أيها الأزواج والزوجات (وخاصةً الأزواج)، عبِّروا عن هذه المحبة بالكلام، وأنا أمنحكم الحق باستعمال كلماتي كدليل لكم وتوقعوا النتائج الرائعة في حياتكم الزوجية.»
«أيها الرعاة والوعاظ والكهنة، هل أصلح لوعظكم في الأعراس وفي مشورتكم للمتزوجين حديثًا وقديمًا؟».
يخبرنا تاريخ الأدب العربي بأن المعلقات كانت تُكتب بماء الذهب، ويستحق النشيد أن يُكتب بماء الذهب ويُعلَّق على قلوبنا. يقع سفر نشيد الأنشاد في قلب الكتاب المقدس. ومن موقعه «القلبي»، فإنه يخاطب القلوب المحتاجة إلى الحب، ويهدف إلى جمع قلبين في عهد من المحبة الصادقة والطاهرة، ويتوق إلى أن تُضرم نار الحب بين كل زوجين، في زمن كاد فيه حطب هذه النار أن يصبح من القطع النادرة!
(لماذا لا نقرأ الكتاب الذي قرأه المسيح؟)