20.4 C
Cairo
الأربعاء, ديسمبر 18, 2024
الرئيسيةفكر مسيحيلماذا لا يقتبس العهد الجديد أقوال العهد القديم دائمًا بدقة؟

لماذا لا يقتبس العهد الجديد أقوال العهد القديم دائمًا بدقة؟

ف. ف. بروس

نجد في مواضع كثيرة أن اقتباسات العهد الجديد لأقوال العهد القديم لا تطابق تمامًا ما في العهد القديم، وهناك عدد من الأسباب لهذا:

أولًا: في العهد القديم قد تمت ترجمته بوجه عام عن النص الماسوري وهو النص اليهودي التقليدي، وأقدم مخطوطاته ترجع إلى نحو عام 900م. ولم يكن لدى أحد من كتبة العهد الجديد هذا النص، فمن كان يعرفون منهم العبرية (مثلما كان بولس) كانوا يقرأون نسخة أقدم من النص العبري وقاموا هم أنفسهم بترجمته إلى اليونانية. ولم يكن هذا النص مطابقًا بالضرورة للنص الذي لدينا.

ثانيًا: لقد سعينا لأن تكون كتبنا المقدسة العبرية أقرب ما تكون للأصل بقدر الإمكان بمقارنة الماسورية بالمخطوطات التي وُجِدت بين مخطوطات البحر الميت في قمران والترجمات القديمة من العبرية إلى الآرامية واليونانية. ولم يكن ذلك الترف متاحًا لأحد من كتبة العهد الجديد، فإنهم بكل بساطة قبلوا النص العبري الذي كان لهم. وفي الحقيقة ليس من المحتمل أن الكثيرين منهم كانوا يمتلكون شخصيًا أي أجزاء من الأسفار الإلهية.

ثالثًا: حتى عندما كان أحد كتبة العهد الجديد يعرف العبرية فليس بالضرورة أنه قد استخدم ذلك النص، بل كثيرًا ما استخدم النص الذي كان قراؤه معتادين عليه. فمثلًا يقتبس بولس أحيانًا النسخة اليونانية للعهد القديم، وهي النسخة السبعينية رغم أنه كان يعرف العبرية ومن المحتمل جدًا أنه كان يحفظ العهد القديم بهذه اللغة عن ظهر قلب.

رابعًا: لم يكن كل كتبة العهد الجديد يعرفون العبرية، فكاتب العبرانيين مثلًا لم يقتبس مطلقًا من النص العبري، فعندما نأتي إلى (عب 1: 6) الذي يقتبس فيه (تث 32: 43) نكتشف أن اقتباسات العهد الجديد لا تتفق مع العهد القديم في الإنجليزية (المترجمة عن العبرية)، ولكنها تتفق مع السبعينية. وفي الكثير من الأحوال، نجد أن السبعينية قريبة جدًا من العبرية حتى ليصعب علينا أن نحكم ما إذا كان الكاتب كان يستخدمها أو أنه كان يترجم من العبرية هو بنفسه إلى اليونانية. ولكن في هذا الجزء نجد اختلافًا يكفي معه أن نقول إن الكاتب لا بد أنه يستخدم السبعينية.

خامسًا: كان كتبة العهد الجديد يختارون نسخة معينة لأنها جعلت النقطة التي يريدون إبرازها بشكل أوضح، كما يفعل الوعاظ اليوم إذ أحيانًا يختارون الاقتباس من الترجمات التي تعرض الآية بطريقة تؤدي النقطة التي يريدون إثباتها، فمثلًا عندما نقرأ (أف 4: 8) نجد أنها تختلف عما في (مز 68: 18) في الإنجليزية (مثلًا). وليس هذا لأن بولس استخدم السبعينية، لأنه في هذه الحالة تتفق الترجمة مع كتابنا المقدس في الإنجليزية، بل يبدو أن بولس استخدم إحدى الترجمات الآرامية “المسماة ترجوم”. ففي كثير من المجامع اليهودية كانت الأسفار الإلهية تُقرأ أولًا بالعبرية – ثم تترجم إلى الآرامية لأنها كانت اللغة التي يستعملها الناس في كلامهم. ولا بد أن بولس كان يعرف النسختين، وفي هذه الحالة اختار أن يترجم لا اليونانية بل الآرامية إلى اليونانية، لأن النص العبري لم يكن يبرز النقطة التي يريد إبرازها.

سادسًا: علينا أن نتذكر أن كتبة العهد الجديد كان من النادر -إن لم يكن من المستحيل- أن يتاح لهم النظر في الأجزاء التي يقتبسونها، فعادةً كانوا يقتبسون من الذاكرة، فكان يكفيهم أنهم يعرفون المعنى العام لنص العهد القديم دون أن يعرفوا ما إذا كانوا غير دقيقين في اقتباسهم.

سابعًا: في الاقتباس من العهد القديم، كان الكاتب في بعض الأوقات يجمع بين أكثر من جزء واحد في صياغة جديدة، فمثلًا بولس في (1 كو 2: 9) كان على الأرجح يصوغ في عبارة جديدة ما جاء في (إش 64: 4؛ 65: 17). وفي (يع 2: 23) يجمع الكاتب بين (تك 15: 6) والمعنى العام لما جاء (2 أخ 20 :7 أو إش 41: 8). فعندما يكون الكاتب يسير بسرعة في إملاء ما يريد، وكل همه هو معالجة قضية معينة في الكنيسة، فإن صياغة عامة لاقتباس من العهد القديم كثيرًا ما كانت تؤدي المطلوب دون الوقوف لتذكُّر العبارة بدقة.

وأخيرًا: علينا أن نتذكر أن هناك بعض حالات لم يكن يقصد فيها الكاتب في العهد الجديد أن يقتبس من العهد القديم، ولكن كان عقله مشحونًا به حتى فاض منه الحديث وكأنه كلماته هو، وفي هذه الحالات لا تُذكر صيغة الاقتباس “فإنه مكتوب”، ولكننا قد نظن أن الكاتب يقتبس لأن ما يكتبه قريب جدًا من مكن العهد القديم.

إذًا فماذا نقول؟ إننا نلاحظ أن كتبة العهد القديم كانوا بشرًا مثلنا، ولكن كانت تنقصهم الأدوات العلمية التي لنا الآن. فأحيانًا كانوا يقتبسون من النسخ الأثيرة عندهم أو النسخة التي تتفق مع رأيهم مثلما نفعل نحن الآن. وأحيانًا كانوا يعيدون صياغة ما يقتبسونه، ويكتبونه من الذاكرة، مثلما نفعل نحن أيضًا. وأحيانًا لم تكن متاحة لهم إلا مراجع محدودة، كما هو الحال مع بعض قراء الكتاب الآن. وأخيرًا: فإن الكثيرين منهم لم يكونوا يعرفون العبرية، فكانوا مضطرين للاكتفاء بالترجمات المأخوذة عن العبرية التي كان يمكنهم قراءتها كما هو الحال مع الكثيرين منا. وفي هذا نرى أن الله استخدم أفرادًا عاديين في كتابة العهد الجديد، فلم تكن معرفة خارقة للطبيعة بالعهد القديم، بل عاشوا داخل حدود ثقافتهم وقدراتهم.

ومع هذا فإن أسفار العهد الجديد التي كتبوها هي التي اعتبرتها الكنيسة أسفارًا موحى بها. فتعاليم العهد الجديد ليست موحى بها لأنه يمكن أن نثبت من العهد القديم بأن ما تقوله مطابق لها. فليس أحد منهم كان يقدم لقرائه محاضرات عن النص الصحيح للعهد القديم، بل في الحقيقة لم يكونوا يقدمون تعليمًا عن لاهوت العهد القديم، فما كانوا يقدمونه هو تعليم حقائق العهد الجديد، وإثبات أن العهد القديم يؤيد النقطة التي يعلنونها. وهذا حق رغم أنه لم يكن لديهم نصوص العهد القديم الدقيقة نسبيًا، والمدروسة جيدًا، مثلما لنا الآن. وعندما يبدو أنهم “مخطئون” لأنهم فسروا العهد القديم بصورة غير الشيء نفسره بها (الآن) فعلينا أن نتذكر: (1) أنه من الممكن أنه كانت لديهم قراءة أفضل للنص مما لدينا الآن. (2) أن روح الله الذي أوحى بالعهد القديم له كل الحق في توضيح معناه.

الأمر الهام هو أنه بينما قد نفهم لماذا يقتبس كتبة العهد الجديد الآيات من العهد القديم بهذه الصورة، فإن الأمر الهام بالنسبة للعهد الجديد هو أنهم يريدون أن يقولوا إن نفس الأمر موحى به في العهد الجديد. وهكذا بينما نستمتع بفهم ما يحدث، ولماذا كانت الاقتباسات من العهد القديم تختلف عما نتوقع، فإن القضية الحقيقية هي ما إذا كنا نطيع تعليم العهد الجديد.

مقالات أخرى

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا