قصة ميلاد المسيح.. بين حرفية النص والمفهوم التقليدي
المذود، مكانه وموضعه.. الخان فندق أم منزل؟ الرعاة كيف كان ينظر إليهم التقليد اليهودي
كينيث بيلي
ترجمة: د. ق. فيكتور مكاري
تداول المسيحيون أحداث قصة الميلاد بمكوناتها التقليدية حسبما سمعوها عبر الأجيال، فسلَّموا بأنها تشمل: “ثلاثة من المجوس”، جاءوا حاملين التقدمات والعطايا، ورعاة الحقول “في قلب الشتاء قاسي البرودة”، والطفل المولود في “مذود البقر”: إن لم يكن له مكان في “الخان”. وقد ترسخت هذه الصورة الشعبية في أذهان الناس. وهنا يواجهنا السؤال: هل من فارق شديد الخطورة بين حرفية النص والمفهوم التقليدي له؟ وهل ساهمت القرون بمعانٍ أضافت إلى فهمنا للنص معاني لم يكن يحتويها قبلًا؟
الخاتم الماسي يضعه صاحبه بفخر واعتزاز: لكنه مع مرور الزمن يحتاج لتنظيف وتلميع من صائغ الجواهر لاستعادة بهائه الأصلي. وكلما طال زمن استعماله ازدادت حاجته إلى التنظيف بين الحين والحين. وهكذا الحال مع القصص الكتابية؛ إذ يصعب فهمها على صيغتها بعيدًا عن مفهومها المألوف. وكلما تمادى تداولها تقليديًا دون تدقيق، ترسخت صيغتها الشعبية في الأذهان. وهذا ما حدث مع قصة ميلاد يسوع.
شوائب وأخطاء في الرواية الشعبية لقصة الميلاد
لقد شاب المفهوم الروائي الشعبي لقصة الميلاد الواردة في (إنجيل لوقا 2: 1-18) عدد من الشوائب والأخطاء المهمة نكتشفها فيما يلي:
1- هنا نرى أن يوسف كان عائدًا إلى بلدته، وأن الذاكرة التاريخية في الشرق الأوسط طويلة الأمد، والروابط العشائرية التي تتماسك بها العائلة الكبيرة في ضيعة الأسرة متينة الأواصر؛ ففي مثل هذا الإطار كان ممكنًا لرجل مثل يوسف أن يظهر في بيت لحم ويقول لأهل البلدة؛ “أنا يوسف بن هالي بن متثات بن لاوي..” (لو3: 23-24) لكانت معظم بيوت القرية تُفتح له في الحال.
2- كان يوسف “ملوكيًا”؛ فهو من بيت الملك داود. وكان “بيت داود” -أي أسرته- عريقًا في بيت لحم، حتى أن أهاليها طالما أطلقوا على البلدة اسم “مدينة داود” كما جرت العادة. هذا مع أن الاسم “مدينة داود” كان يشير عادةً في أسفار العهد القديم إلى أورشليم. ولكن يبدو أن الكثيرين من أهالي ضواحي بيت لحم كانوا يلقّبونها “مدينة داود” (لو2: 4). وبالتالي فلابد أن يوسف كان يلقى ترحيبًا في أي منزل من منازل البلدة.
3- تحظى المرأة الحبلة في سائر الحضارات باهتمام بالغ، خاصةً إذا كانت على وشك أن تضع مولودها. وفي المجتمعات القروية البسيطة، غالبًا ما يعاون الأهالي نساءهم في عملية الوضع بغض النظر عن الظروف الراهنة. فهل نتصور استثناء بيت لحم من هذه التقاليد؟ هل خلت البلدة من عادات الشرف؟ لابد أن أهل البلد شعروا بمسئوليتهم لمساعدة يوسف في إيجاد مكان ملائم لحماية أسرته، وتقديم العناية الكافية التي كانت مريم في أشد الحاجة إليها. وإلا فكم كان يكون مقدار الخزي والعار الذي يصيب أهل بيت لحم، مدينة داود، بلدة أحد أبناء العائلة الملوكية التي تنتمي لبلدتهم؟!
4- كان للكثير من سكان بيت لحم أقرباء في القرى المجاورة. وكانت مريم سبقت فزارت أليصابات في جبال مدينة يهوذا؛ حيث كانت بيت لحم تتوسط المنطقة، وهذه تلقتها بالترحيب. فعندما وصلت مريم مع رجلها يوسف إلى بيت لحم لم تكن تبعد عن دار زكريا وأليصابات. لذلك إذًا تعذَّر على يوسف أن يجد مكانًا في بيت لحم، كان من الطبيعي أن يتوجه إلى منزل نسيبه زكريا. ولكن هل توفر له الوقت الكافي لمواصلة السفر ولو لبضعة أميال إضافية؟
5- يتضح من (لوقا 2: 4، 6) أنه كان ليوسف ما يكفي من الزمن؛ إذ “صعد…. من الجليل إلى مدينة الناصرة إلى اليهودية… وبينما هما هناك تمت أيامها لتلد”. لكن الاعتقاد الشائع لدى المسيحي العادي هو أن يسوع وُلد في ذات ليلة وصول العائلة المقدسة – ومن ثم استعجال يوسف في قبول أي نوع من المأوى ولو كان ذلك مذود الماشية. وعلى هذا الاعتقاد يتكرر عرض مسرحية الميلاد في كثير من الكنائس، عامًا بعد عام.
رواية مخالفة لمؤلف مجهول
إن النص يذكر بوضوح أن ولادة يسوع حدثت بعد أيام من وصول مريم ويوسف إلى بيت لحم، وإن لم يحدد عدد تلك الأيام. ولكن لا شك في أنها كانت تكفي لتدبير مأوى مناسب أو للجوء إلى بيت أقرباء مريم. فمن أين وردت هذه الإضافات الأسطورية التي ترسبت إلى أعماق العقل المسيحي عن الوصول المتأخر ليلًا والميلاد الذي حل موعده، هل لنا أن نتعرف على مصادرها؟
ظهرت بعد ميلاد يسوع بحوالي مائتي عام رواية مطوَّلة للميلاد -لمؤلف مجهول- بعنوان “الإنجيل الأسبق بحسب البشير يعقوب”، دون أن ترتبط بيعقوب بأية صلة، ومن خلال محتوياتها يتضح أن مؤلفها لم يكن يهوديًا ولا يعرف جغرافية أرض فلسطين، ولا يفهم تقاليد المجتمع اليهودي، كما ظهرت في تلك الفترة مؤلفات عديدة أخرى تحمل أسماء شخصيات مشهورة.
يستنتج المؤرخون أن تلك “الراوية” كُتبت في حوالي عام 200 بعد الميلاد، لهذا هاجمها القديس جيروم اللاهوتي اللاتيني المشهور وكذا عدد من الباباوات. كانت الراوية مكتوبة أصلًا باللغة اليونانية، ولكنها تُرجمت إلى اللغات اللاتينية والسريانية والأرمينية والجورجية والإثيوبية والقبطية والسلافونية العتيقة. لا شك في أن مؤلف الراوية قرأ قصص الأناجيل، ولكنه لم يعرف تضاريس الأرض المقدسة؛ فمثلًا يشير في روايته إلى أن الطريق من القدس إلى بيت لحم طريق صحراوي، مع أنه في الواقع طريق زراعي خصب. كما تذكر الراوية أنه عند اقترابهما إلى بيت لحم طلبت مريم من يوسف قائله: “يا يوسف، أنزلني من على ظهر الحمار لأن الطفل الذي بداخلي يضغطني لينزل”. فعندئذ ترك يوسف مريم في كهف وأسرع في الذهاب إلى بيت لحم ليبحث عن قابلة. وبعد أن يرى في طريقه رؤى خيالية إذا به يعود ومعه المولِّدة (فيما كان الطفل قد وُلد) فيجتازان منطقة يغطيها سحابة سوداء ثم يبهرهما نور شديد اللمعان أحاط بالكهف. هنالك تظهر في الغيب امرأة تدعى سالومي فتفيدها القابلة بأن عذراءً وضعت طفلها ومع ذلك تحتفظ بعذراويتها، ولما لم تصدق سالومي تلك الأعجوبة يبست يدها بالبرص. فحاولت التأكد بفحص مريم التي تأكد فعلًا صدقها. وهنا يقف بغتة أمام سالومي ملاك يبلغها أن تلمس الطفل، وإذ فعلت تمت المعجزة فشفيت يدها للحال. وهكذا تسترسل الراوية إذ ليس غريبًا على كُتَّاب الروايات أن يشطح بهم الخيال. أما النقطة المهمة في هذه الراوية التي يُعتقد أنها أقدم المؤلفات الأسطورية هي أن يسوع وُلد قبيل وصول والديه إلى بيت لحم أو بمجرد ليلة وصولهما إلى أطراف البلدة. ومن ثم فالمسيحي العادي الذي لم يسمع براوية “إنجيل يعقوب” لا يسعه إلا أن يتأثر لا شعوريًا بحكاياتها. ننبه بأن هذه الراوية اعتمدت على خيال مؤلفها لتنسج توسيعًا مجسمًا لتفاصيل قصة الإنجيل، ولكنها ليست قصة الإنجيل بذاتها.
أين كان “المذود” وماذا كان “الخان”؟
عرَّفنا فيما تقدم بأحد أنواع مشاكل التفسير التقليدي لنص (لوقا 2: 1-7)؛ حيث كان يوسف عائدًا إلى بلدته التي لم يكن يصعب له أن يجد فيها مأوى. فلأنه انحدر من سلالة داود الملك، فإن جميع أبواب المدينة كانت ستُفتح له. ومريم كان لها أقرباء أمكنها -لو احتاجت- أن تستعين بهم، ولكنها لم تفعل، كما أن الوقت كان متاحًا لتدبير إقامة مناسبة. كيف كان ممكنًا لبلدة يهودية صغيرة أن تخذل فتاة أمًّا توشك أن تلد؟ وفي ضوء تلك الأبعاد التاريخية والحضارية كيف لنا إذن أن نفهم النص. وهنا يخطر لنا سؤالان: أين كان “المذود” وماذا كان “الخان”؟
وردًا على السؤالين؛ واضح أن قصة ميلاد يسوع التي دوَّنها لوقا تتفق في تفاصيلها مع تاريخ الأرض المقدسة وجغرافيتها؛ فالنص يسجل أن يوسف “صعد” مع مريم من الناصرة إلى بيت لحم. إن بيت لحم تستوي على هضبة ترتفع بنسبة ملحوظة عن الناصرة. ثانيًا “مدينة داود” كان اسمًا معروفًا محليًّا أضاف إليه لوقا عبارة “التي تُدعى بيت لحم” للتعريف. ثم ثالثًا، إن “بيت فلان” تشير في الشرق الأوسط إلى “عائلة فلان” ولكن القارئ اليوناني قد يتخيل أن المقصود هو “منزل” أو “بناية داود” عندما ترد عبارة “بيت داود”. ولعل هذا ما دفع لوقا (وهو يوناني الجنس) أن يضيف “وعشيرته” ليتأكد من فهم قرَّائه لما كتب. إن لوقا لم يغيِّر النص، فهذا كان تقليدًا ثابتًا “في الأمور المتيقنة عندما كما سلَّمها الذين كانوا منذ البدء” (لو1: 1-2)؛ ولكنه كان لديه الحرية في إضافة بعض الملاحظات التوضيحية. رابعًا، يذكر لوقا أن مريم “قمطت” طفلها. وهذه العادة القديمة يُشار إليها في سفر (حزقيال 16: 4)، ولا يزال أهالي الريف في سوريا وفلسطين يمارسونها إلى اليوم. وأخيرًا تتجلى في هذه التلاوة نبرة مسيحانية -كريستولوجية- ذات صلة بالملكوت الداوودي. وهكذا فإن هذه النقاط الخمس تنبِّر على أن خيوط قصة ميلاد يسوع نُسجت بكل تدقيق وعناية على يد يهودي آمن بإتمام نبوات مجيء المسيح، وفي مرحلة مبكرة جدًا في حياة الكنيسة الأولى.
(توضع الصور )
أما بشأن كلمة “مذود” كما يفهمها العقل المعاصر -وخصوصًا في الغرب- فهي تستحضر له صورة “حظيرة الماشية” أو “الزريبة”. إلا أنها لا تعني ذلك في بيئة أرياف الشرق الأوسط؛ ففي مثل الغني الغبي (لو12: 13-21) تُذكر كلمة “مخازن”، التي توحي بمكان منفصل عن المنزل لخزن الحبوب أو لحماية الماشية أو لإيواء العربات. ومن الطبيعي أن توجد مثل هذه عند أصحاب الثروة الطائلة، لإيواء الماشية. لكن بيوت بسطاء قرى فلسطين كانت في الأغلب لا تزيد عن غرفتين ظلت إحداهما مخصصة دائمًا لاستقبال الضيوف. وكانت هذه ملحقة بطرف المنزل أو بمثابة “عليَّة النبي” فوق سطح المنزل، كما ورد في قصة إيليا (1مل17: 19). أما الغرفة الرئيسية فهي غرفة العائلة؛ حيث الأسرة كلها تعد طعامها وتأكل وتنام وتقيم. وفي طرف هذه الغرفة، تخصصت مساحة للماشية – إما أسفل الأرضية بحوالي متر أو على نفس مستوى الأرضية على الناحية مع وجود جذع خشبي عريض يفصل مساحة الدواب عن غرفة العائلة. في الليل تساق البقرة والحمار وبعض الخراف التي تمتلكها الأسرة إلى تلك المساحة المخصصة لها، وفي الصباح تساق إلى الفناء الخارجي جوار المنزل، فيتم تنظيف المكان. ويستطيع المرء أن يشاهد هذه النماذج البسيطة للمنازل الريفية التي وُجدت منذ عصر داود وحتى منتصف القرن العشرين. وقد رأيتها في أعالي الجليل كما وفي بيت لحم؛ ونستطيع أن نتصور بساطتها من شكل رقم 1:1.
أما سطح البيت فهو مستوٍ بحيث يمكن أن تُبنى فوقه غرفة؛ كما ويمكن أن يُضاف للمنزل على مستواه الرئيسي غرفة للضيوف. ويُستعمل الباب الواحد كمدخل لأفراد الأسرة كما وللماشية. والفلاح يحب أن يُدخل الماشية إلى داخل المنزل كل ليلة لأنها تضيف إليه الدفء في أثناء الشتاء، كما تبيت آمنة من السرقة. (شكل 1: 2)
يتفق هذا النموذج التقليدي للمنزل الريفي الشرقي مع ما ورد في تصوير قصة ميلاد يسوع. كما ونجد نمطه متضمنًا أيضًا في قصص العهد القديم؛ فمثلًا في صموئيل الأول 28، حين كان شاول ضيفًا في منزل عرّافة عين دور رفض الملك أن يأكل. فأقنعته العرافة أن يأكل، وأسرعت وذبحت له عجلًا مسمنًا كان عندها “في البيت” (ع 24) وأعدت له طعامًا وقدمته له ولعبيده فأكلوا. لاحظ أن المرأة لم تحضِر العجل من حظيرة خارج المنزل ولكنه كان داخل المنزل.
فهم العلماء الذين سكنوا الشرق الأوسط لأكثر من مائة سنة أن (لوقا 2: 7) تشير لغرفة عائلية مزوَّدة بمذود في نهاية الغرفة. وإن كان هذا صحيحًا فلابد وأن نسأل ما معنى المنزل. وما الذي كان يملؤه؟
إن ذهب يوسف ومريم لمنزل خاص لولادة يسوع في مذود فكيف تُفهم كلمة منزل في (لوقا 2: 7)؟ غالبية المترجمين للإنجليزية يقولون إنه بعد ولادة الطفل وضع في مذود “لأنه لم توجد لهم غرفة في المنزل”. ويبدو من هذا أن يوسف ومريم والطفل العتيد لم يكن مرحَّبًا بهم عند أهل بيت لحم. فهل كان هذا صحيحًا؟
تكمن في اللغة التي تعود عليها الناس “مصيدة” خفية، حيث إن عبارة “لا موضع في المنزل” توحي بأن الدار احتوت عددًا من الغرف، وكانت جميعها ممتلئة بالنزلاء. فكأنه عندما وصل يوسف ومريم إلى البلدة استقبلتهما لافتة تقول “لا يوجد مكان”! لكن إذا عُدنا للأصل اليوناني نجد أن العبارة المُستعملة هنا لا تعني “لا يوجد مكان في الدار” بل لا توجد “مساحة” – أو لا توجد “فسحة” – أو “وسع” (topos)، أي أن غرفة الأسرة لا تتسع لإيواء أسرة أخرى، وامرأة حبلى وعلى وشك الولادة.
أما الكلمة اليونانية في (لوقا 2: 7) التي شاعت ترجمتها (الإنجليزية) بلفظة inn (أي “دار” – وأحيانًا “خان”) فهي katalyma – كاتاليما – والتي لا تشير عمومًا إلى دار تجارية للنزلاء؛ ففي مثل السامري الصالح (لو10: 25-37) أتى هذا السامري المسافر بالرجل المصاب -بعد أن ضمَّد جراحاته وأمدّه بالإسعافات الأولية وأركبه على دابته- إلى “فندق” واعتنى به. والكلمة في ذلك النص هي pandocheion. ويفيد المقطع الأول من هذه الكلمة المركَّبة معنى “كل” أو “جميع” والثاني منها يعني “استقبال”، وبهذا تقليد كلمة “باندوخيون” معنى “مكان لاستقبال الكل” واتسع استعمالها عبر بلاد الشرق الأوسط فكثيرًا ما وردت -مع بعض التحريف- في اللغات الأرمينية والقبطية والتركية والعربية (فندق) بمعنى النزل التجاري – وهو دار لإيواء الجميع.
لو أن لوقا أراد أن يُفهم القارئ أن يوسف لم يجد للأسرة الصغيرة موضعًا للإقامة في غرفة مستأجرة في دار تجارية لاستعمل كلمة “فندق” (باندوخيون). ولكنه اختار كلمة “كاتاليما” (أو كاتالوما) اليونانية ووصفها بأنها كانت مزدحمة. فماذا تعني هذه الكلمة؟
كلمة كاتاليما تعني حرفيًا “مكانًا للإقامة”، وتشير إلى أنواع متعددة من المأوى. أما الثلاثة الأقرب إلى الصحة من معانيها فهي: “دار” (inn) (وهي المُستعملة في عدد من الترجمات الإنجليزية التقليدية). و”منزل” (وهي المستعملة في الترجمات العربية عبر ما يزيد على ألف عام)؛ و”غرفة ضيوف” (وهذا ما يبدو أن لوقا قصد التعبير عنه). وفي الواقع، عاد لوقا فاستخدم ذات الكلمة (كاتاليما) في مناسبة أخرى رواها في إنجيله حيق يعرِّف معناها في النص ذاته؛ ففي الإصحاح الثاني والعشرين يقول يسوع لتلميذيه بطرس ويوحنا:
“إذا دخلتما المدينة يستقبلكما إنسان حامل جرة ماء. اتبعاه إلى البيت حيث يدخل وقولا لرب البيت يقول لك المعلم أين المنزل حيث آكل الفصح مع تلاميذي فذاك يريكما عليَّة كبيرة مفروشة. هناك أعدَّا” (لو22: 10-12).
هنا تعرَّف كلمة كاتاليما بلفظة “عُليَّة” ومن وصفها يظهر بكل وضوح أنها تعني غرفة للضيوف في منزل يقيم فيه صاحبه وأسرته. وينطبق هذا المعنى تمامًا على استخدام لوقا لكلمة كاتاليما في قصة الميلاد. هنا في (2: 7) يفيد لوقا قرَّاءه بأن يسوع وُضع في المذود (مع أسرة صاحب البيت) لأن غرفة الضيوف كانت مشغولة. فإذا كان لوقا يستخدم كلمة كاتاليما قرب نهاية إنجيله لتعني “غرفة للضيوف” ملحقة ببقية المنزل (22: 11)، فلماذا لا تحمل الكلمة نفس المعنى في بداية الإنجيل؟ يمكننا أن نتصور منظر غرفة الأسرة، ملحقًا بها موضع مخصص لاستقبال الضيوف بالاطلاع على (الشكل 1: 3).
وقد اختار العلَّامة ألفريد بلَمَر هذا المعنى في تفسيره ذي الأثر الذي نُشر في أواخر القرن التاسع عشر عندما كتب: “من المستبعد أن تكون الترجمة المألوفة “في الدار / خان” صحيحة… والأرجح أن يوسف استعان بكَرَم صديق له في بيت لحم ضم بيته غرفة ضيوف لكن اتضح عند وصوله مع مريم أنها كانت مشغولة”.
يمكننا إذن أن نلخص قصة ميلاد يسوع هكذا: بعض ما يخبرنا به لوقا البشير هو أن العائلة المقدسة سافرت إلى بيت لحم حيث استضافهم بيت امتلكته إحدى عائلات البلدة. وُلد الطفل ووُضع ملفوفًا في أقمطة على مهد محفور في أرضية غرفة العائلة أو مصنوع من الخشب وموضوع في جانب الغرفة. لماذا لم يُدعَوا للمبيت في غرفة الضيوف؟ لأن ضيوفًا آخرين أقاموا بها. أما أهل البيت فبحفاوة رحبوا بمريم ويوسف بمشاركتهم الغرفة العائلية في بيتهم.
وعندما حانت ساعة الوضع، أخليت الغرفة من الرجال وبقيت بها القابلة والنسوة الأخريات اللاتي ساعدن في التوليد. ولما وُلد الطفل وتقمط أضجعته مريم في مذود مملوءٍ قشًا طازجًا، وغطته وعندما نضج يسوع وانخرط في خدمته “كان الجمع الكثير يسمعه بسرور” (مر12: 37). كان هذا نفس القبول المرحَّب الذي بدأ عند ميلاده.
الرعاة في التقليد اليهودي.. فئة غير طاهرة
إن قصة الرعاة تعزز الصورة التي وضّحناها أعلاه. كان الرعاة في القرن الأول من الطبقة الفقيرة، وتصفهم التقاليد الحاخامية عند اليهود بأنهم فئة غير طاهرة. قد يبدو ذلك غريبًا إذ يُستهل المزمور الثالث والعشرون بالإنشاد “الرب راعيَّ”. ولا ندرك كيف انحدرت الكناية ذات هذه الرفعة إلى كونها مهنة توصف بالنجاسة. وقد يكون السبب الرئيسي في هذا هو أن القطعان كانت تأكل من الحقول الخاصة. فالتقاليد الربينية تسجل المهن المحرّمة في خمس قوائم، تضمنت ثلاث منها عمل الرعاة. ومع أن تلك القوائم تعود إلى الفترة ما بعد العهد الجديد، إلا أنها تعكس بعض الأفكار المتداولة في زمن يسوع. وعلى أي حال فالرعاة كانوا فئة وضيعة من الناس، ومن غير المتعلمين.
كان أول من سمع نبأ ميلاد يسوع، بحسب (لوقا 2: 8-14)، هم جماعة من الرعاة الذين كانوا من أدنى الدرجات على السلَّم الاجتماعي، الرعاة سمعوا وخافوا، بل لعلهم ارتعدوا في أول الأمر من منظر الملاك والجند السماوي، ولكنهم ذهبوا مسرعين لرؤية المولود! فمن وجهة نظرهم إذا كان الطفل هو بالفعل المسيا المنتظر لرفض والداه زيارة الرعاة لأنه كيف للرعاة لأن يتوقعوا ترحيبًا؟
لابد أن الملك السماوي شعر بقلق الرعاة، لذلك طمأنهم الملاك بالقول إنهم سيجدون الطفل مقمطًا (حيث كانت الأقمطة هي الملبس البسيط الذي استخدمه القرويون الفقراء، ومنهم الرعاة، لستر المواليد). كما أنه أضاف أنهم سوف يجدون الطفل مضجعًا في مذود! نعم إنهم سيجدون المسيا الطفل في بيت وضيع مثل بيوتهم، إذ لم يولد في قصر أحد الحكام، أو في منزل أحد فطاحل التجارة، لكن في مأوى متواضع كما هو مألوف لديهم. هذه هي البشارة السارة حقًا لهؤلاء الرعاة البؤساء؛ وكانت تلك هي “العلامة” أنه وُلد لهم اليوم في مدينة داود مخلِّص هو المسيح الرب.
وبهذه العلامة المشجعة، ذهب الرعاة إلى بيت لحم بالرغم من منزلتهم “المتضعة” (لو1: 52). ولما وصلوا عند المذود ورأوا الطفل أخبروا بما قيل لهم، والذين سمعوا تعجبوا؛ ولما فارقوا المكان ذهبوا “وهم يمجدون الله ويسبحونه على كل ما رأوه وسمعوه”. لا شك أن كلمة “كل” احتوت مقدار الترحيب والمسرة والكرم الذي لاحظه الرعاة عند وصولهم إلى البيت. كل هذا يشير إلى أنهم وجدوا الأسرة المقدسة في مكان مريح نظيف يسد الاحتياج.
لا يدهشنا كل هذا؛ إن نحن ندرك المقدرة الهائلة عند شعوب الشرق الأوسط لتكريم الضيف. وتظهر هذه الممارسة منذ بدء التاريخ كما في قصة إبراهيم وضيوفه (تك18: 1-8) وحتى يومنا هذا. لقد غادر الرعاة وهم يسبحون الله من أجل معجزة ميلاد المسيح المخلِّص، كما ومن أجل الكرم والفرح اللذين استقبله بهما مضيفوه في بيتهم المتواضع. وهذا ما يتوِّج قصة الرعاة: إن المخلص مسيح الرب وُلد لأجل أمثالهم – الفقراء والمُحتَقرين والمرفوضين من الناس، كما أنه جاء أيضًا للأثرياء والحكماء الذين يظهرون لاحقًا في رواية الميلاد حاملين هدايا ثمينة من الذهب واللبان والمرّ.
يخبر متى قرَّاءه بأن الرجال الحكماء دخلوا البيت حيث رأوا مريم والطفل (مت2: 1-12) تؤيد القصة التي دونها البشير متى الاقتراح الذي قدمه لوقا بأن الطفل يسوع وُلد في بيت.
الملخص
1- كان تجسد يسوع كاملًا، وعند ميلاده تم الترحيب به وبأسرته المقدسة في بيت قروي عادي. وأعطى له أهل البيت أفضل ما لديهم، وكان هذا يكفي. عند الميلاد قدم بسطاء من عامة الناس مأوى لحمايته. وإلى البيت أيضًا جاء حكماء المشرق. ولما كبر يسوع، استمع الناس إليه بفرح.
2- والرعاة أيضًا حضروا إلى البيت ولاقوا ترحيبًا. وإذ كان الاعتقاد السائد أنهم غير طاهري، حُسبوا الآن أنقياء. هؤلاء المنبوذين أصبحوا ضيوفًا كِرامًا. وكان أبسط الناس أول من سمع أنشودة جوقة السماء.
إثراء وليس إفقار
وبهذا التفسير الذي عرضناه، قدمنا حلًّا معقولًا للمشاكل الثقافية التي يتعرض لها الاختلاف الحضاري. فالآن نرى أن يوسف لم يضطر إلى اللجوء إلى فندق أو خان عام؛ كما أنه لا يظهر في صورة زوج خائب لا حول له في التجاوب لاحتياج مريم في ظروفها الصعبة. وفي نفس الوقت، لم يجرح يوسف مشاعر الأقرباء بتجاهلهم في وقت الأزمة، وكذلك لم يوجد في الصورة صاحب الخان الذي كنا نتخيله بقساوة قلبه. ولم يُخذَل في هذه القصة أحد أبناء داود وقت عودته إلى بلدة أصله وعشيرته. لقد قدم أناس بيت لحم أفضل ما لديهم وهكذا حفظوا كرامة البلدة وشرف أهلها. والرعاة فرحوا وسبحوا الله لأنهم عاينوا وعد الله بالمخلِّص المرجو.
بهذا نحن لا نغيّر منظر الميلاد المحبب لقلوبنا؛ حيث يسجد الثور والحمار له لأنه مازال في المذود. إلا أن المذود كان في بيت الأصدقاء بدلًا من اسطبل قاسي. إننا نزيل عن قصة الميلاد الشوائب الدخيلة التي تطرقت إليها عبر السنين. ولد يسوع في بيت ريفي بسيط من غرفتين كسائر بيوت الشرق الأوسط. نعم يلزم أن نعيد كتابة مسرحيات الميلاد وبإعادة الكتابة سنثري القصة ولن نفقرها.
يسوع بعيون شرق أوسطية