22.4 C
Cairo
الإثنين, مارس 3, 2025
الرئيسيةفكر مسيحيالوكالة في الفكر المسيحي (2)

الوكالة في الفكر المسيحي (2)

الدكتور القس ﭽورﭺ شاكر              

تحدثنا في العدد الماضي عن الأساس الكتابي للوكالة في الفكر المسيحي ورأينا أربعة مبادئ وهي:

1.الله هو المالك لكل شيء بحق الخلق.

2. الله هو المالك بحق الفداء.

3. الإنسان هو وكيل عن الله في إدارة الكون.

4. الإنسان يستثمر ما لديه من مواهب وإمكانات لله المالك الحقيقي لكل شيء.

واليوم نتحدث عن دوائر الوكالة المسيحية.

أولًا: الوكالة على الوقت

    نعم! حياة الإنسان عبارة عن الوقت الذي نقضيه على الأرض من المهد إلى اللحد، وقديمًا قال أحد الشعراء:

دقات قلب الإنسان قائلة له                 إن الحياة دقائق وثوانٍ

فمَنْ يُضّيع وقته يُضّيع حياته، ومَنْ يقتل وقته يقتل نفسه، ومَنْ لا يعرف قيمة وقته لا يعرف قيمة حياته.

ويقول إرميا: “إنه من إحسانات الرب أننا لم نفن، لأن مراحمه لا تزول.” (مرا 3: 22).

فالوقت ملك للرب، ويجب أن نتصرف فيه كما يقول الرسول بطرس: “ليكن كل واحد بحسب ما أخذ موهبة، يخدم بها بعضكم بعضًا، كوكلاء صالحين على نعمة الله المتنوعة.” (1بط4: 10).

فالوقت أعظم وزنة أعطاها الله لنا، ويقول الرسول بولس: “مفتدين الوقت لأن الأيام شرِيرة” (أف5: 16).

وكلمة “مفتدين” في أصلها كلمة تجارية كانت تستخدم في القديم في نظام المقايضة قبل ظهور العملة، وكأن الكلمة تعني أنه إذا أمكنكم استبدال الوقت بأي شيء آخر مفيد لحياتكم فاستبدلوه، أو إذا كان في إمكانكم شراء الوقت فاشتروه دون تردد. وهو يقول: “لأن الأيام شريرة”، والكلمة لها أكثر من معنى أذكر منها:

أ. الأيام قصيرة وسرعان ما تنتهي فلقد شبهتها كلمة الله بتشبيهات كثيرة تدل على قصرها، على سبيل المثال كبخار يظهر قليلًا ثم يضمحل، وأشبار فما أقصرها، وكخيال يتمشى الإنسان.

ب. الأيام غادرة بمعنى خائنة، فالإنسان مهما سما علمه لا يعرف ما تخبئه له الأيام وما ستكون عليه غدًا.

جـ. الأيام غادرة بمعنى أن الفرصة التي تمضي لن ترجع مرة أخرى… واليوم الذي ينتهي لا يمكن أن يعود مرة ثانية، فعقارب الساعة لا ترجع إلى الوراء إطلاقًا.

د. وتعني أن العالم وُضع في الشر والناس تتساقط كل يوم في دوامة الشر والرذيلة، ودورنا كشعب الرب أن نتحرك لنقدم رسالة خلاص الرب للنفوس الضائعة.

 وأمام وزنة الوقت الذي يجب أن نتصرف فيه كوكلاء أمناء وحكماء أود أن أشارككم بعض الأفكار.

لكي نستثمر وقتنا أفضل استثمار علينا أن نضع في اعتبارنا بعض الأمور أذكر منها:

1.  اصرف وقتك في أهداف كبيرة

   لتكن صاحب أحلام وطموحات، لقد لُقب يوسف من إخوته بأنه “صاحِبُ الأحلامِ” (تك37: 19).

كانت أحلامه كبيرة وترسبت في أعماقه فدفعته للجهاد والاجتهاد والكفاح والنجاح والانتصار على آلام الزمان التي مر بها، واستطاع بمعونة ومعية الله أن يحقق كل أحلامه ورؤاه.

   والجدير بالذكر أن الطموح هو كتابيًا طاقة مقدسة وضعها الله في الإنسان لأنه مخلوق على صورته، ولأن الله غير محدود، ولذلك نرى الإنسان كلما حقق شيئًا اشتاق لما هو أعلى وأفضل منه، فقد وضع الله الطموح في الإنسان حتى تستمر عجلة الحياة في تقدم مستمر. ولولا صفوة البشر الطموحين المكافحين المجتهدين لما وصلنا لما نحن عليه من تقدم وتطور مذهل في كل المجالات العلمية والفكرية والطبية والفنية والأدبية.

بالطبع هناك الطموح المدمر للإنسان، الطموح الخاطئ الذي يتمركز حول الذات والأنا، فمثلًا الغني الغبي بعدما أخصبت كورته قال: “أعمل هذا: أهدم مخازني وأبني أعظم، وأجمع هناك جميع غلالي وخيراتي، وأقول لنفسي: يا نفس لك خيرات كثيرة، موضوعة لسنين كثيرة. استريحي وكلي واشربي وافرحي!” (لو12: 18، 19).

وفي يقيني أن هذا الرجل بمقاييس هذه الأيام يُعتبر رجل أعمال ناجحًا على أعلى مستوى، وكما قال أحدهم بأنه يستحق أن ينال الدكتوراه الفخرية في الاستثمار والعديد من الجوائز الدولية عن جدارة.

والمتأمل في هذا المثل يجد أن الكتاب لم يذكر أنه سلب أو نهب أو سرق، أو تقاضى رشوة، أو اختلس، ولكن مشكلته أن طموحه كان يدور حول الأنا (استريحي، كلي، اشربي، افرحي). وأنت وأنا خُلقنا لا لنعيش لأنفسنا، وإنما لتكون لنا رسالة نحو المجتمع الذي نعيش فيه، كما قال الرب يسوع في موعظته الخالدة على الجبل: “أنتُمْ نورُ العالَمِ… أنتُمْ مِلحُ الأرضِ.”

وهناك الطموح الخاطئ المبني على حساب المبادئ والقيم، فلقد قال السيد: “لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربِح العالم كله وخسر نفسه؟” (مر8: 36).

وهذا ما حدث مع ديماس الذي بدأ حياته الروحية على يد بولس في تسالونيكي وخدم معه ولكن شدته جاذبية الأرض، وجرفه تيار العالم بسبب طموحه الخاطئ، فيقول الرسول بولس بلغة أسيفة: “لأن ديماس قد تركني إذ أحب العالم الحاضر وذهب إلى تسالونيكي، وكريسكس إلى غلاطية، وتيطس إلى دلماطية” (2تي4: 10)

وهناك الطموح الذي يقود إلى الغرور والكبرياء، فبعدما يحقق الإنسان طموحه ينتفخ ويتكبر على الناس، ويعاملهم بازدراء وتهكم وسخرية.

وبئس الطموح الذي يقود إلى الطمع، فشهوة الامتلاك لا تقف عند حد كما يقول سليمان الحكيم: “العين لا تشبع من النظر، والأذن لا تمتلئ من السمعِ” (جا1: 8).

إن الطموح الإيجابي الصحيح يهدف إلى مجد الله وتحقيق مشيئته، أما الطموح الدنيوي يهدف للمجد الذاتي. والطموح الصحيح يهدف للمزيد من صنع الخير للغير، أما الطموح الدنيوي فيهدف للمزيد من الأخذ والمنفعة الخاصة الشخصية.

والطموح لا يتوقف عند سن معينة، فنقرأ في كلمة الله عن كالب بن يفنة أنه يقول: “فلم أزل اليوم متشددًا كما في يوم أرسلني موسى. كما كانت قوتي حينئذ، هكذا قوتي الآن للحرب وللخروج وللدخول” (يش 14: 11). إنه رجل الشباب الدائم، فهل تتخيل أن هذه الكلمات ترد على لسان شخص عمره 85 عامًا؟! لقد كان ممتلئًا من الحيوية والنشاط فنراه يطلب من يشوع بعد ذلك قائلًا: “فالآن أعطني هذا الجبل” (يش14: 12)، وكان هذا الجبل هو جبل حبرون حيث يسكنه بني عناق العمالقة وكانت هناك مدنهم حصينة، ورغم ذلك دخل وانتصر وصارت حبرون ملكًا له.

والتاريخ يسطر لنا أن كلمة الله تملأنا بفكر الطموح، فعدسة الوحي المقدس تصور لنا شخص كان قد ولِد في ظروف قاسية جدًا اسمه “يعبيص” مع ذلك نراه يصلي قائلًا: “ليتك تباركني، وتوسع تخومي، وتكون يدك معي، وتحفظني من الشر حتى لا يتعبني” (1أخ4: 10).

والتخوم هي الحدود، فقد كان يطمح أن تتسع بقعة الأرض التي يمتلكها واستجاب له الله.

  وكان أليشع يخدم إيليا ولو توقف عند هذا الحد لأصبح نسيًا منسيًا، ولكنه كان طموحًا، وعندما سأله إيليا: ماذا أفعل لك قبل أن أُخذ منك كانت إجابته “ولما عبرا قال إيليا لأليشع: اطلب: ماذا أفعل لك قبل أن أوخذ منك؟ فقال أليشع: ليكن نصيب اثنين من روحك عليّ” (2مل2: 9).

  ويذكر الوحي المقدس عن داود عندما سمع عن المكافأة التي سيقدمها الملك شاول لمَنْ يقتل جليات ذهب وسأل أحد الرجال: “ماذا يُفعل للرجل الذي يقتل جليات؟”… وكانت الإجابة أن الملك سيغنيه ويزوجه ابنته، ولما تأكد من هذا الأمر دفعه طموحه ليذهب لمحاربته لينال المكافأة الكبيرة، وكان طموحه دافعًا له للانتصار. نعم! إن كنا نؤمن بأن إلهنا عظيم فلتكن أحلامنا وطموحاتنا كبيرة.

2. استثمر وقتك الاستثمار الأمثل

    قال أحدهم: “قل لي ما هو هدفك وأنا أقول لك مَنْ أنت”، فكل إنسان يساوي القضية التي ربط نفسه بها. والجدير بالذكر أن المتأمل في حياة الرب يسوع على الأرض يجد أنها كانت قصيرة حوالي ثلاثة وثلاثين عامًا، وأنه بدأ خدمته في سن الثلاثين، ولكن في خلال الثلاثة سنين استطاع أن يحقق أعظم هدف في تاريخ البشرية كلها وهو خلاص الإنسان من الخطية.

ويوحنا المعمدان الذي كان أكبر من الرب يسوع بستة أشهر وقطع هيردوس رأسه قبل صلب المسيح لم تتجاوز فترة خدمته سنتين، ولكنه استطاع في هذه الفترة القصيرة أن يُحدث تغييرًا في كل المجتمع اليهودي، وأن يعد الطريق أمام الرب.

   ويوشيا في العهد القديم قاد أكبر حركة إصلاح وتصحيح في تاريخ شعب الله، وكانت حياته كلها 39 سنة ولكنه استطاع من بداية حياته أن يضع قلبه بالكامل على هذا الهدف العظيم.

نعم! ليس المهم كم من السنوات تعيش، ولكن المهم هو أن تستثمر كل لحظة في وقتك لتحقيق أهدافك.

لقد عاش متوشالح 969 سنة، ولكن الكتاب المقدس لم يذكر أي إنجاز له.

3.  لا تستهلك وقتك فيما لا يفيد

      في مسيرك في ذي الحياة، قد تتعرض للنقد والتشويه من الحاقدين والحاسدين وغير الفاهمين، والنصيحة هي ألا تلتفت إلى كل ما يشدك إلى الوراء، ولا تفكر في الرد عليهم والدخول معهم في معارك جانبية، بل دع إنجازاتك هي التي تتكلم عنك. لعل هذا يذكِّرني بتلاميذ سقراط الذين جاءوا إليه يومًا وقالوا له: “إن الناس يقولون عنا كذا وكذا.” فقال لهم: “حسنًا لقد حان الوقت لكي نثبت لهم أننا لسنا كذلك ولكن بالأعمال وليس بالأقوال.”

هذا ولقد واجه الرب يسوع في حياته نقدًا شديدًا وكان مُعرَّضًا لأن يهدر وقته في معارك جانبية كثيرة، ولكنه لم يستسلم لحقد الحاقدين وجهل الحاسدين ومكرهم وخداعهم، فلقد قالوا عنه إنه يجدف، وإن به شيطان، ولكنه لم يرد. وكم من مرة أراد رؤساء الكهنة والكتبة والفريسيون أن يصطادوه بكلمة ولكنه كان بحكمة يتعامل معهم.

والدارس المدقق لسفر نحميا يجد أن نحميا رفض أن يضّيع وقته في حروب مستمرة مع سنبلط الحوروني وطوبيا العبد العموني وجشم العربي، ففي مرة هزأوا به وبحماسته واتهموا الشعب بأنهم يتمردون على الملك (نح2: 19) وفي مرة قالوا عنهم: “إن ما يبنونه إذا صعد ثعلب فإنه يهدمه” (نح4: 2).

وفي كل هذا، كان نحميا يرد بالإنجاز، ولم يدخل في صراعات تستنزف وقته، وتبعده عن الهدف، فلقد كانت كل الجماعة يد تبني ويد تمسك السلاح، ويقول نحميا: “فبنينا السور، واتصل كل السورِ إلى نصفه وكان للشعب قلب في العمل” (نح4: 6).

ولما فشلت كل محاولاتهم السابقة أرسلوا إليه لكي يجتمعوا به مكان ما اسمه (أونو) بحجة التحاور والتشاور معه، ولكنهم كانوا يريدون قتله، ولكن رد نحميا كان رائعًا وحاسمًا، إذ قال: “إني أنا عامل عملًا عظيمًا فلا أقدر أن أنزل” (نح6: 3). وأرسلوا له أربع مرات، وهو يعتذر لهم برقة لئلا يعطل العمل.

كان كل ما يهم نحميا هو الإنجاز الكبير، فأكمل البناء في اثنين وخمسين يومًا. تذكَّر أن الرياضي في ميدان السباق ربما يسمع مَنْ يشجعه ويفرحه، وربما يسمع مَنْ ينتقده ويجرحه، ولكنه لا يضع قلبه لا على هذا ولا على ذاك، وإنما قلبه في السباق، وعيناه على الوصول إلى الهدف قبل كل مَنْ يتسابق معهم.

عبرة في عبارة

– مَنْ لا يعرف قيمة وقته

لا يعرف قيمة حياته.

مقالات أخرى

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا