أشرف ونيس
ضاقت الحروف بها ذرعًا! كما أخفقت مجلداتنا في تحمُّل المزيد! وقف الزمن مندهشًا من فيض أنهارها! كما تعجبت السنون من كثرة غمارها التي أزاحت كل رديء من أمامها!.. اهتزت أرجاء الكون وجنباته من صدى همسها الرقيق! كما تحرك الأزل والأبد من شذى عبيرها البديع! فبها ثارت القلوب بل خمدت!.. تزلزلت النفوس بل هدأت!.. ارتعشت الأرواح بل سكنت!… فارت الأبدان بل همدت!.. تسابقت ذرات دمائنا للتدفق بخريطة أوردتنا! كما تسارعت خلايانا على التجدد والتخلق والإنجاب والميلاد! لم تلبث أعصابنا بفعل أريجها أن تتنافر إلا حينًا.. حتى هدأت وغفلت ونعمت بالأمن والطمأنينة والسلام!.. تخللت كل معاملة حسنة! اخترقت بجذورها كل آثار طيبة! أحاطت بأطرافها كل ابتسامة راقية! كما طمت بعذب أمواجها بكل إهداء وعطاء وإنعام!
إنها المحبة، وما الحب إلا بصيص من سطوع تلك المحبة! يسكن التجرد كل بقاعها، ويتربع الصفاء بقلبها ممتدًا بذلك إلى حد أطرافها. هي الحب بلا مقابل والعطاء بلا شروط…. تحيطها هالة من الاقتناع، ويتخلل قلبها نور مشرق من البلوغ والاكتمال والنضوج.. هي الراحة العظمى للأفراد، والسلام الدائم للشعوب، والشمس التي لا تغيب عن كوكب يحوي بلادًا وأقطارًا وقارات وحدودًا..
هي السمو فوق كل رغبة، والتسامي فوق كل منفعة.. الإيثار بكل تضحياته والتضحية الآسرة المزخرفة بالبذل والجود والإغداق..
هي السخاء في أخذ القليل لتقديم الكثير، الإكرام في انتشال الزهيد للإنعام بالثمين، السخاء الكريم والإجزال السخي الذي يتضمن كل منحة وهبة وامتنان.
أي قيمة يصل مداها إلى ذلك العلو؟ وأي مبدأ ينال من تلك الرفعة؟ وأي شموخ يلحق بتلك القمة؟ وأي سناء يدرك تلك العظمة؟
إنها نجوم السماء مجتمعة، رمال البحار مفترشة، أوراق الشجر مزدهرة، بل خطى البشر على مر السنين والعصور والأزمان!!!
هل أدركنا هذا الذي قابل الإساءة بالاحترام؟ هل تطلعنا إلى ذاك الذي رد الجفاء بالسؤال والاهتمام؟ هل شاهدنا أولئك الذين قد استقبلوا القسوة بالرأفة، والذين لاقوا الصلابة والعنف باللين والرخاوة والابتسام؟ لم يكن هذا انعكاسًا لقمة الفضائل ألا وهى المحبة؛ القوة الغافرة، البأس المتسامح، الجلد المتصافي، الانتصار المتنازل المغلَّف بالكرم والفضل والإحسان.
رأينا شبعًا نابعًا من حرمان، شاهدنا جفافًا نابعًا من تدفق، عاينا ارتواءً نابعًا من نضوب، كما تأملنا خصوبة منبثقة من عقم وقحط وقحول. لم يكن هذا إلا قبسًا من نور تلك المحبة سطع فغدا ظلام الكون ضياء. إنها مياه أزلية يرتكن الوجود في جزء من أركانها حتى تتنازل عن بعض من نقاطها فيرتشفها ظمأ الأرض ارتشافًا فتدب فيها الحياة من بعد ممات.
تتبصر العاطفة الرعناء فيبدو لها تلاشيًا، تحدِّق إلى حب التملك فيمسي لها اندثارًا، تترفع من فوق هودجها عن سعير صحراء حب الأنا فيغدو لها عطبًا وفراغًا وخواء وانحدارًا. إنها الـ “محبة”؛ كلمة تحوي من الأحرف أربعة لتنتشر بأهداب ثوبها القشيب على كافة زوايا الأرض وأقطابها. إنها بحر سباحة لا يُعبر، سماء بها شموس وأجرام وأقمار، أفق غير محدود، اتساع بلا نهاية، غور بلا عمق أو قاع أو حتى قرار… المحب.