ق. رأفت رؤوف الجاولي
“واجتاز في السبت بين الزروع، فابتدأ تلاميذه يقطفون السنابل وهم سائرون. فقال له الفريسيون: انظر! لماذا يفعلون في السبت ما لا يحل؟ فقال لهم: أما قرأتم قط ما فعله داود حين احتاج وجاع هو والذين معه؟ كيف دخل بيت الله في أيام أبيأثار رئيس الكهنة، وأكل خبز التقدمة الذي لا يحل أكله إلا للكهنة، وأعطى الذين كانوا معه أيضًا. ثم قال لهم: السبت إنما جُعل لأجل الإنسان، لا الإنسان لأجل السبت. إذًا ابن الإنسان هو رب السبت أيضًا” (مر2: 23-28).
إذ جاء المسيح يقدم أعماقًا جديدة للناموس اصطدم بالفكر الفريسي الجامد، فعندما رأى الفريسيون تلاميذ المسيح يقطفون سنابل الحقول ويأكلونها فقالوا: “انظر. لماذا يفعلون في السبت ما لا يحل؟” لقد أباحت الشريعة للإنسان أن يأكل من أي حقل، لكن لا يأخذ معه شيئًا، لكن الفريسيين حسبوا قطف السنابل في السبت وفركها بأيديهم ليأكلوا ممارسة لأعمال الحصاد والدرس والتذرية. إنها حرفية قاتلة! فقدم لهم المسيح مثالًا من العهد القديم، فإنه إذ هرب داود ورجاله من وجه شاول ذهبوا إلى رئيس الكهنة، وأكلوا من خبز التقدمة الذي لا يجوز أكله إلا بواسطة الكهنة (1 صم 21). في إجابته، أعلن يسوع سلطانه بقوة: “السبت إنما جُعل لأجل الإنسان، لا الإنسان لأجل السبت. إذًا ابن الإنسان هو رب السبت أيضًا”. والهدف من استخدام هذا النص في مقالنا هذا هو الإشارة إلى أن الإنسان قد يُستعبد لنظام معين، فالسبت كان كالسيد الذي يتم استعباد الناس له وقت المسيح. والآن البرنامج قد يكون سيدًا يسلب حرية الإبداع والاستمتاع بالشركة مع الرب والتكريس له. فقد يكون من المهم غالبًا لكل مَنْ يتبني برنامج أن يري الانجاز، والانجاز وحده قد يكون هو الهدف. وهذا أبعد ما يكون عما هو مفترض من أن البرنامج مجرد وسيلة والرب هو الهدف والمركز وكل التكريس والحياة له. وفي طرحنا هذا نشير إلى أن دور كنيسة المسيح بلا شك هو أن تكون نورًا ولمسة أمل لعالم جريح يشرب الإثم كالماء. إن دور الكنيسة الحيوي يتطلب مرونة وتحركًا وفوق كل شيء رؤية إلهية واضحة وخدمة باذلة مضحية… لكن الأمور تحول إلى برامج… برامج… برامج تشل حركة الكنيسة حيث إنه لا بد من نجاح كل برنامج ووجود كثيرين يشتركون فيه، فهو الانجاز الذي يقود للشعور بالكفاءة والإحساس بأننا فعلنا أمرًا عظيمًا. ويمكن تناول هذا الموضوع من خلال النقاط التالية:
أولًا: آليات البرامج وجدواها
1- هدف وجدوى البرامج:
كل برنامج له هدف هذا مؤكد وإلا لما وُجِدَ هذا البرنامج أو ذاك، لكن كما نعلم فإن هناك خلفية معينة لكل أمر، أي كيف نشأت الفكرة الخاصة بالبرنامج ومَنْ تبناها؟ وهل كل ما تبناه صاحب فكرة هذا البرنامج يناسب هذه الكنيسة المحلية بالذات أم لا؟ وبالطبع هناك تقليد أعمى في بعض الأحيان بأن يتم اختطاف فكرة برنامج تم تطبيقه في كنيسة أخرى ومحاولة تطبيقه في كنيسة لها ظروف مختلفة تمامًا. كذلك فإن السطحية الروحية قد تكمن وراء محاولة ملء الوقت بفكرة جذابة أو غير مألوفة. لذا لا عجب أن نقرأ مرارًا كثيرة على الفيس بوك: “تعالوا لصحبة جميلة وأكل لذيذ و… و… وسنستمع لمحاضرة شيقة من الأخ.. القس فلان”، وهي صيغ معتادة الآن تمامًا لأي برنامج لجذب الناس.
2- إثبات الذات والبرنامج:
كثيرًا ما تطغي الذاتية في تبنى برنامج معين، وكلما كان فريق العمل مكرسًا ومصليًا كانت هناك اجتماعات ثابتة للبناء الروحي معًا وليس فقط للمناقشات الإدارية وكذلك قضاء أوقات هادئة في الصلاة وفهم مشورة الله، وحينئذٍ قد يكون جهدًا له معنى ومغزى حقيقي. لكن المهم ألا يكون البرنامج المقترح هو فكرة أحادية المصدر، فحتى لو اقترحها شخص ما أيًا كانت صفته كنسيًا فلا بد من انتقاء شخص آخر على الأقل ليتعاونا معا في كل مراحل تنفيذ البرنامج. هذا بخلاف وجود لجنة معهما إن استلزم الأمر ذلك. أحادية المرجعية في أي برنامج قد تخلق ديكتاتورية وتسلطًا على الآخرين.
3- تغيير هدف الكنيسة
إن وجود الكنيسة على الأرض هو إعلان ان تكون نورًا وسط ظلام العالم فتتحرك بقوة لجذب النفوس للمسيح. ومع أن هذا الأمر معلوم يقينًا لكل كنيسة، فإن الكنيسة قد لا تعيش هذا المفهوم المرسلي على الإطلاق. ويكمن سبب من الأسباب إن لم يكن كل الأسباب في التقيد ببرامج تريد الكنيسة تنفيذها. وهذه البرامج قد تكون شيقة وهادفة بشكل ما أو بآخر، لكن الانصهار داخل هذه البرامج، سواء برامج اجتماعات متخصصة أو برامج الكنيسة العامة من سيمينارات ولقاءات روحية ومؤتمرات، قد يجعل الكنيسة بلا رؤية نحو التأثير في العالم، حيث تغيب الرؤيا الهامة وتُستبدل برؤى صغيرة لإنجاز برنامج وراء برنامج. المهم أن الكل يعمل ومشغول.
ثانيًا: النتائج المترتبة على التركيز على البرامج:
1- التجريح والإساءات:
ولأني مهتم دائمًا بالمسح الميداني، لذا فالمقصود ليس أبدًا كلامًا فلسفيًا بلا معني ولا هدف بل هو كلامك واقعي ويحدث اليوم في كنائس عديدة. في إحدى الكنائس التي تضم قادة لهم تأثير عام كبير، اقترح أحد القادة أن يتم تكوين لجنة عامة تقيِّم كل العمل في الكنيسة بلجانها المختلفة بحيث يمكن الاستغناء عن بعض اللجان إن كانت غير هادفة أو غير مثمرة. وبكل تأكيد، كان البرنامج الموضوع لعمل هذه اللجنة (وأقصد به هنا تحديدًا الخطوط العريضة لعمل هذه اللجنة) بالفعل رائعًا ولا غبار عليه، لكن دائمًا … أؤكد دائمًا ما تجنح السفينة فيفلت الزمام وتحدث العواقب. لا أريد الاسترسال كثيرًا فهو مجرد مثل من أمثلة عديدة، لكن المهم أن النتيجة كانت تجريحًا وإساءة لخدام عاملين بالإضافة لتجريح الراعي نفسه. ولأن الكنيسة في هذا العصر إلى حد كبير قد تبرمجت، لذا أصبح المشهد المألوف الذي حدث ويحدث في كنائس عديدة هو أن يتم تقييم الرعاة بناءً على برامج معينة إن كانت في نظرهم غير مجدية فليتم فك روابط الرعوية ورحيل الرعاة.
2- غياب أهمية الكرازة:
وسط هذا الحشد من البرامج والتسابق على زيادتها من وقت لآخر، تغيب رؤية الكرازة وتكاد تنعدم مع أن الأصل في الأمر هو أن الكنيسة هي جماعة مرسلة وسط العالم، لذا وجب وجود دور واضح ومعلن للجميع.
ثالثًا: طريق العودة والإصلاح:
1- إعادة تعريف مفهوم الكنيسة:
قد يكون هذا غريبًا لكنه مطلوب وبقوة لأن عدم وجود مثل هذا التعريف المحدد الواضح يبعد الكنيسة تمامًا عن رسالتها وهي للتأكيد مرة ومرات جماعة مرسلة إلى العالم. إن شعب الكنيسة قد أخذ قالب البرامج هذه الأيام وتناسي الجميع الأهمية المحورية لوجود الكنيسة في الأرض. لذا لا بد من إزالة هذا اللبس وعدم الوضوح، وإن لم يتم الإسراع في ذلك فإننا نكون قد ارتكبنا خطية كبيرة وهي إهمال النفوس التي تحتاج إلى الخلاص.
2- إعادة فهم طبيعة الكرازة:
“أما تقولون: إنه يكون أربعة أشهر ثم يأتي الحصاد؟ ها أنا أقول لكم: ارفعوا أعينكم وانظروا الحقول إنها قد ابيضت للحصاد والحاصد يأخذ أجره ويجمع ثمرًا للحياة الأبدية لكي يفرح الزارع والحاصد معًا. لأنه في هذا يصدق القول: إن واحدًا يزرع وآخر يحصد” (يو4: 35-37).
شبَّه الرب غير المُخَلَّصين بحقول مبيضة للحصاد فهي بحاجة إلى مَنْ يقودها إلى المخلص “لأن كل مَنْ يدعو باسم الرب يخلص. فكيف يدعون بمن لم يؤمنوا به؟ وكيف يؤمنون بمن لم يسمعوا به؟ وكيف يسمعون بلا كارز؟” (رو10: 13 و14) هناك جموع غفيرة من غير المُخَلَّصين ومسئولية المُخَلَّصين تجاههم هي: “فاطلبوا من رب الحصاد أن يرسل فعلة إلى حصاده”، فمسئولية المؤمنين مزدوجة بالتضرع :(اطلبوا) أي تضرعوا من رب الحصاد، فهل تعودت أن تطلب هذا الطلب في صلاتك؟ وأيضًا بالتطوع: “ثم سمعت صوت السيد قائلًا: من أرسل؟ ومن يذهب من أجلنا؟ فقلتُ: هأنذا أرسلني. ” (إش6: 8)، فهنا إشعياء يتطوع لكي يرسله الله ليبشر ويتكلم ويخبر الآخرين عن الله. فلنتكلم عن المسيح بشجاعة ونخبرهم عن محبة المسيح العجيبة والفريدة.
أخيرًا:
إن الرب يريد أن يُنهِض كنيسته الغافلة بالتذكرة بأن لديها دورًا أعظم من مجرد عمل برامج وملء وقت أعضاء الكنيسة بالأنشطة، فعوضُا عن كل ذلك كيف يكون لشعبه اليوم القلب النابض بالحب نحو النفوس الهالكة؟ فهل نقول اليوم: “هأنذا أرسلني”؟