كريستيان جيفارا
الكنيسة.. كلمة عندما نقرأها أو نسمعها تنتابنا معاني وأشكال عدة..
منا من يأتيه المعنى في صورة مذبح وهيكل مُدشَّن..
ومنا من تأتيه الصورة لمجموعة مؤمنين متحدين..
ومنا من تأتيه الكنيسة على هيئة منبر وعليه واعظ مـفوه وأسفل مسرحه سامعيه
وفي رأيي تعددت الأشكال والكنيسة الحقيقية واحدة
قال تلاميذ المسيح للمسيح قديمًا..
“يا معلّم رأينا واحدًا يخرج شياطين باسمك وهو ليس يتبعنا.. فمنعناه لأنه ليس يتبعنا”
“ليس في كنائسنا.. في اجتماعاتنا.. في طائفتنا.. في لغتنا في جنسنا.. في أوطاننا”
ورد عليهم رب الأرباب ومخلصنا ومناضلنا الأول والأخير:
“لا تمنعوه.. لأن من ليس علينا فهو معنا”
“من لا يجمع معي فهو يفرق”
وها حول العرش من كل قبيلة ولسان وشعب وأمة
من كل ألوان طيف البشر.. يعشقونه ويسجدون له
أمام هذا الإله المتواضع الذي أخلى نفسه آخذًا صورة عبد
أحاول أن أفر وأهرب من اختلافاتنا التي فتتت قوانا ومازالت تفتت
اختلافاتنا التي كان يمكن أن تثرينا في يوم من الأيام
أحاول أن أنطلق من الجوهر.. جوهر إيماننا “مخلصنا يسوع المسيح”
الكلمة.. الطريق.. الحق.. الحياة.. العثرة.. حجر الزاوية الذي رفضه البناءون وما زالوا ولكنه قد صار رأس الزاوية
أكتب بعيدًا عن أيدي الصراع
الكنيسة هيكل.. أم مجموعة مؤمنين!
مذبح مدشن.. أم بيت متواضع!
أهرب من إشكاليات الطائفية.. أهرب إلى جوهر الكنيسة الحقيقية..
التي تعرفها من ثمارها.. التي لا يمكن أن تعبر من أمامها عبور الكرام
التي هي عروسه.. وهو عريسها
هي جسده.. وهو رأسها
ذروة مشيئته
لا منظر لها لنشتهيها.. سوداء وجميلة الجميلات
مَنْ تحمل ملامح الأبرع جمالاً من كل بني البشر
مرآته.. عاكسة مجده.. هي وهو واحد
كل ما له لها.. وكل جمالها وقداستها منه
هو رأسها وهي أعضاء جسده
هي ملح الأرض.. إذا فسد فطوفان آتِ لا محالة
والطوفان هذه المرة ليس مياه
“رعب أكثر من هذا سوف يجيء”
شر أكثر من هذا سوف يجيء!
ظلامُ أكثر من هذا سوف يجيء!
موتُ أكثر من هذا سوف يجيء!
هي حاملة روح الحياة.. ترِف على وجه خراب العالم
حاملة روح الخلود.. المخترقة مسام تراب العالم
حاملة روح البراح.. المُحطِّمة أسوار وسجون وحصار العالم
حاملة روح الهداية.. المواجهة لضلال العالم
هي نور العالم.. مدينة النور الموضوعة على جبل..
المضيئة القلوب.. والأزقة.. والقصور..
التي تجيد إصابة الظلام بشظايا النور
وإذا أظلم النور لا فرق بين مـُبصر وكفيف
لا فرق بين جاهل وحكيم.. بين كاهن وفرد من القطيع
الكل سيتخبط.. سيضل
سيضل.. وإن أمكن المختارين
هي صوت لمن لا صوت لهم
المكبوتة أحلامهم تحت وطأة الجوع الكافر.. والفقر الكافر.. والذل الكافر.. والقهر الكافر
هي صرخة المنتهكين في غياهب الزنازين..
– زنازين الأنانية البكماء الصماء.. وزنازين الطغاة –
المعذبين إلى حد النخاع.. المرذولين والمهمشين
المطروحين على قارعة الطريق.. وفي سلة مهملات العالم
لم تترك عريانًا ليستدفئ بعيدًا عنها..
وذهبت لتصلي له
لم تبخل بموائدها عن الجياع..
لم يسقط لها فتات على الأرض..
لم تلقِ خبزها وقدسها باطلاً..
كأس ماء بارد منها لم يضيع.. ولم يروِ سرابًا
لم تكنز لها كنوزًا ينخرها السوس.. ويتآكلها الصدأ
لا تخدم سيدين.. تكفر بالمال وتؤمن بالله
ولكن ليس إيمان الشياطين الذين يؤمنون ويقشعرون.. وما زالوا يقشعرون!
لا تشرك بالله ولا تشرك بالإنسان.. لا تشرك معه أحدًا أو شيئًا..
فالإنسان أعظم من السبت
أعظم من الذهب.. أعظم من صندوق النذور..
أعظم من الأرض.. وأعظم من الجاه.. على رأس الخليقة هو
في قلب ميدان المعركة تجدها..
منتصبة القامة.. مرفوعة الهامة.. تناضل
لا تساوم.. ولا تهادن.. ولا تحارب طواحين الهواء
تحارب أجناد الشر الروحية في السماويات.. الرياسات وسلاطين الهواء بكل وعي وقوة واقتدار
لم تهرب ولم تغترب.. كالقنفذ لم تحتمِ من العالم بنفسها.. وفي نفسها.. ولنفسها!
“لستُ أسأل أن تأخذهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرير”
فالأبراج العاجية وجبال الأولمب والسموات العُلى ليست مكانها
كل ما هو منفصل.. كل ما هو بعيد.. كل ما هو غير متاح..
كل ما هو غير واقعي .. كل ما هو غير منطقي ..
كل ما هو غير علمي ليس مكانها
ضد الخرافة.. والتغييب.. والاغتراب
تجدها حاضرة.. طازجة.. مناضلة
الكنيسة.. غير هاربة.. وغير ممتزجة بالعالم
رغم كونها في العالم.. لكن هي والعالم ليسا واحدًا
ليست أعضاء جسده.. ليست من خلاياه
ليست امتدادًا له.. ليست على شاكلته وليست مخلوقة على صورته كشبهه
غير هاربة.. وغير ممتزجة
الكنيسة تحمل كل ملامح التمايز عن العالم
ملحه.. نوره.. كيان متفرد ومتمايز جدًا
يحمل كل تفاصيل الواقع البشري..
احتياجات البشر.. آلام البشر.. أحلام البشر
وتحمل في أحشائها النهر الذي لا يُعبر.. يروي عطش الأرض للبشرى وللأمطار
تُستأمن على سلطان يحمل مفاتيح الحرية الحقة.. تفك أغلال الداخل.. قيود الجوهر.. وتحل خيوط ظلام الخارج.. وأربطة الكفن
وجودها في العالم.. ليس تجميليًا.. ولا ترفيهيًا..
ولا لملء حيز من الفراغ البيزنطي.. السفسطائي
الخاص بموائد الرحمن وحوار الحضارات
ولا يمكن أن تكون عصا غليظة على رؤوس الخطاة
ولا حجر لرجم المُمسكين في ذات فعل العالم
ولا سيف الحلال والحرام المُسلَّط على رقاب العباد
ولا محاكم تفتيش لفحص الضمائر والنوايا بسوط جلاد..
بليزر الفريسيين والحرفيين والكهنة الأسياد
متواضعة.. غير متكبرة.. عكس تخمة الصفوف الأولى..
غاسلة أرجل الجمع -الأشرار والأبرار.. الصالحين والطالحين-
وخادمة الكل.. الكل وليس أحدًا بعينه
الكنيسة وجود حقيقي.. ليس وجودًا روحانيًا هلاميًا مضببًا ولا وجودًا برجماتيًا سافرًا
(فغايتها لا تبرر وسائلها)
“لأن الغايات المقدسة تحققها وسائل مقدسة”
الكنيسة وجود حقيقي
ليس محايدًا.. ولا رماديًا.. ولا مألوفًا أو عاديًا
إما كائنة.. أو غير كائنة
“نكون أو لا نكون”
كلية الحضور.. أم كلية الغياب
جسد فعال وحي.. أو جثة هامدة مهملة على قارعة العالم
وجود.. أو عدم
نور للعالم.. وملح للأرض
منطقة الإشراق لهبوب رياح الحرية الحقة
عاملة مع الآب والابن اللذين يعملان إلى الآن
حيث أحشاء الله التي تريد أن الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون
هي التي تشرق على الأشرار والأبرار
تدعو المرضى وكل مَنْ يظنون أنهم أصحاء
تبحث عن الخروف الضال.. والابن الضال
وتهتم وتحتضن وتحتوي التسعة والتسعين
تتعامل مع البشر ليس كأرقام ولا حالات ولا كدرجات سلم الصعود إلى الفردوس..
بل كمخلوقين على صورة الله
تحمل جوهر المخلص.. ملامح المخلص.. تعاليم المخلص.. أحشاء المخلص
ثورة المخلص لتغيير العالم.. ولجعل الحياة حياة أفضل
حيث الحب غير المشروط.. الحب المجاني
فالعالم قبل المُخلِّص شيء.. وبعد المُخلِّص شيء آخر
بِركة ميتة قبل الكنيسة.. وبعد الكنيسة نهر حي
عظام متناثرة قبل الكنيسة.. وبعد الكنيسة جيش للحب عظيم
العالم قبل الكنيسة شيء.. وبعد الكنيسة على ما أظن ينبغي أن يكون شيئًا آخر