“اقتصاد حرب”… هل هي “زلة لسان” أم اتجاه وإرادة وطن؟!
متى شهدت مصر اقتصاد الحرب؟… وما هي التحديات والآثار المترتبة على ذلك؟
تحقيق: إيهاب أدونيا
في ظل تفاقم الأزمات الإقليمية وتأثيرها على مستقبل المنطقة، وتزايد التوترات السياسية، تحدث رئيس الحكومة، مصطفى مدبولي، عن مرحلة جديدة قد تفرض على مصر معادلة غير مألوفة. فمع تصاعد الصراعات في الشرق الأوسط، تبرز ملامح ما يُعرف بـ”اقتصاد الحرب”، والذي يعني توجيه الدولة لمواردها نحو الحفاظ على استقرارها وبقائها، بدلًا من السعي وراء النمو والازدهار، حيث أعلنت مصر على لسان رئيس حكومتها، مصطفى مدبولي، أن القاهرة قد تلجأ إلى “اقتصاد الحرب”، مما يثير التساؤلات حول التحديات التي تواجه البلاد وسبل مواجهتها.
كان مدبولي قد أوضح خلال مؤتمر صحفي، أن “الحكومة تواجه تحديات غير مسبوقة، وتتعامل مع اضطرابات الوضع الدولي والإقليمي بحزمة من القرارات، ولو دخلت المنطقة في حرب إقليمية سنكون في وضع شديد، وربما ندخل في وضع اقتصاد الحرب”.
مدبولي: لو حدثت تطورات حرب إقليمية فسندخل فيما يسمى اقتصاد حرب
كان رئيس الوزراء مصطفى مدبولي قد قال في مؤتمر صحفي إنه “لو حدثت تطورات حرب إقليمية سندخل فيما يسمى اقتصاد حرب”، موضحًا “أنه في حالة سوء الأوضاع السياسية في المنطقة ستتخذ مصر مزيدًا من إجراءات الترشيد”.
وأشار مدبولي إلى أنه حتى في الفترات التاريخية التي كانت فيها الدولة طرفًا في حروب مباشرة، كان هناك توجه واضح للأحداث، وإمكانية للتخطيط بناءً على معطيات قائمة بالفعل على الأرض. لكن في ظل المرحلة الحالية، فإن “الوضع يتغير يوميًا، حيث تعيش المنطقة حالة شديدة من عدم اليقين، الأمر الذي جعل الحكومة تعمل على سيناريوهات يتم تغييرها باستمرار وفق المستجدات الراهنة”.
توضيح حكومي
صرح محمد الحمصاني المتحدث باسم الحكومة المصرية بأن مدبولي كان يقصد “اتخاذ إجراءات استثنائية على المستوى الاقتصادي لمواجهة أي نقص في سلاسل الإمداد”.
واستشهد بما واجهته جميع دول العالم من نقص في سلاسل الإمداد للسلع الأساسية خلال أزمة جائحة كورونا، قائلًا إن “الدولة اتخذت وقتها مجموعة من الإجراءات لمواجهة التداعيات”. وأوضح أن “الإجراءات تضمنت وقتها الاستيراد من مصادر أخرى، وبناء مخزون إستراتيجي على المستوى المحلي”.
وشدد على أن: “كل دولة لها خطة طوارئ للتعامل مع أي نقص في الإمدادات خلال أوقات الأزمات، وهذا ما أشار إليه رئيس الوزراء خلال المؤتمر الصحفي”.
وطمأن المصريين بأن “الحكومة تعمل على مواجهة أسوأ السيناريوهات”، مؤكدًا أن “الدولة لديها مخزون إستراتيجي من السلع الأساسية يكفي لعدة أشهر”.
ما هو اقتصاد الحرب؟
يعني اقتصاد الحرب تنظيم القدرة الإنتاجية والتوزيعية للدولة أثناء فترة صراع عسكري، إذ تُنَفَذ تعديلات جوهرية على كل قطاعات الاقتصاد والسلوك الاستهلاكي للمواطنين لتلبية احتياجات القطاع العسكري.
في اقتصاد الحرب، يجب على الحكومات اختيار كيفية تخصيص موارد بلادها بعناية شديدة من أجل تحقيق النصر العسكري مع تلبية مطالب المستهلكين المحليين الحيوية.
ويتضمن اقتصاد الحرب إعادة توجيه اقتصاد البلاد لإعطاء الأولوية للاحتياجات العسكرية على الاستهلاك المدني، وهذا يستلزم غالبًا زيادة سيطرة الحكومة على الصناعات وإعادة تخصيص الموارد وإعطاء الأولوية للإنتاج الدفاعي.
وفي حين أن مصر لا تشارك حاليًا في حرب تقليدية تتطلب مثل هذا التحول، إلا أن المشهد الجيوسياسي أصبح متقلبًا بشكل متزايد، خاصةً مع الصراع المستمر في قطاع غزة، والتوترات المتزايدة بعد امتداد الصراع إلى لبنان، والتهديدات المتبادلة بين إسرائيل وإيران، والمخاوف الأوسع نطاقًا بشأن الأمن على المستويين الإقليمي والعالمي.
ويمكن أيضًا تفسير اقتصاد الحرب خارج سياق شن حرب مباشرة ضد عدو معين، كما يوضح المحاضر في جامعة لندن مارت كولدكيب: “إلى حد ما، يُعد اقتصاد الحرب أيضًا أداة للحرب المعلوماتية، وهي مجموعة من التغييرات والسياسات الاقتصادية التي تهدف إلى ردع العدو وتثبيطه من خلال إرسال رسالة عزم إستراتيجي في حرب مستمرة.”
إجراءات شبيهة باقتصاد الحرب
وإن كان التعبير قد خان رئيس الوزراء، فهذا لا يمنع أن مصر دولة محورية في المنطقة المشتعلة حاليًا بالشرق الأوسط، وأي تداعيات تؤثر عليها سياسيًا واقتصاديًا.
وإذا ساءت الأوضاع أكثر من ذلك واتسعت رقعة الحرب الإقليمية بالمنطقة، فإن مصر قد تضطر لاتخاذ إجراءات شبيهة بتلك التي يتم اتخاذها وقت الحرب نظرًا لأن اقتصادها ليس في وضع جيد، خاصةً مع تضرر مواردها الرئيسية كقناة السويس وانخفاض إيرادات السياحة وتراجع الاستثمار المباشر.
ومن ضمن الإجراءات التي قد تتخذها مصر وقف الاستيراد من الخارج للحفاظ على النقد الأجنبي، والاعتماد على الإنتاج المحلي، واستخدام احتياطات الذهب في توفير الاحتياجات الأساسية، والعمل على وقف انخفاض الجنيه، وإصدار قوانين وقرارات خاصة بهذه الفترة.
إن مصر ليست في حاجة ماسة حاليًا للدخول في اقتصاد الحرب بمعناه الحرفي لأنها ليست مهددة بالدخول في حرب كما أنها ليست في عداء مع إسرائيل التي تخوض حروبًا مع دول قريبة من مصر. ولكن في حالة اتساع الحرب بالإقليم، ورغم عدم وجود مصر كطرف مباشر فيها، فإن اقتصادها سيتأثر بشدة ومن ثَمَّ يمكن أن تدخل مصر فيما يسمى اقتصاد الطوارئ أو الأزمات الكبرى.
مصر تتخذ بالفعل منذ عدة سنوات إجراءات اقتصادية صعبة نظرًا لسوء الوضع الاقتصادي والإقليمي، ولكن حتى الآن لم يتحقق ما يمكن وصفه باقتصاد الحرب الذي تُوَجَه فيه كل موارد الاقتصاد تقريبًا للمجهود الحربي.
باختصار، يُعتبر اقتصاد الحرب تحولًا استثنائيًا في مسار الدول، يجمع بين القوة الاقتصادية والعسكرية، ويوجه طاقات الأمة نحو مواجهة التحديات الوجودية التي تفرضها الصراعات الكبرى.
متى شهدت مصر اقتصاد الحرب؟
طبقت مصر اقتصاد الحرب في الفترة بين عامي 1967 و1973، فبعد الهزيمة في حرب 1967 ضد إسرائيل، خسرت مصر معظم دخلها من العملة الصعبة بسبب توقف الملاحة في قناة السويس وتراجع السياحة وخسارة آبار النفط في شبه جزيرة سيناء، كما فقدت مصر نحو 80 في المئة من معداتها العسكرية ما استدعى تسخير كل إمكانات الدولة لشراء معدات بديلة حتى تتمكن مصر من الدفاع عن نفسها ضد أي اعتداء جديد.
وخلال تلك الفترة، سعت الحكومة المصرية بكل الطرق الممكنة إلى خفض الاستهلاك، ونفذت عدة برامج تقشفية على كل المستويات ما خفض نسبة الواردات وزيادة معدلات الادخار.
كذلك فرضت الحكومة قيودًا ضخمة على المنتجات المستوردة لضمان توجيه العملة الصعبة للمجهود الحربي، وقصر الاستيراد على الضروريات التي لا يمكن استبدالها بمنتج محلي.
وفي عام 1973 ومع نشوب الحرب، ظهرت (سندات الجهاد) التي كانت في بداية الأمر اختيارية يشتريها المواطن لدعم المجهود الحربي ثم حولتها الحكومة لاحقًا لاكتتاب إجباري على المواطنين عدا محدودي الدخل.
أولويات اقتصاد الحرب
يعطي اقتصاد الحرب الأولوية لإنتاج السلع والخدمات التي تدعم جهود الحرب، وقد تتخذ الحكومات أثناء أوقات الصراع تدابير لإعطاء الأولوية لنفقات الدفاع والأمن الوطني، بما في ذلك التقنين، إذ تسيطر الحكومة على توزيع السلع والخدمات فضلًا عن تخصيص الموارد.
وفي أوقات الحرب، تقترب كل دولة من إعادة تكوين اقتصادها بطريقة مختلفة وقد تعطي بعض الحكومات الأولوية لأشكال معينة من الإنفاق على أشكال أخرى.
بالنسبة لدولة ذات اقتصاد حرب، تُستخدم دولارات الضرائب في المقام الأول في الدفاع؛ وعلى نحو مماثل، إذا كانت الدولة تقترض مبالغ كبيرة من المال فقد تذهب هذه الأموال في الغالب للحفاظ على الجيش وتلبية احتياجات الأمن الوطني.
وعلى العكس من ذلك، في البلدان التي لا تعاني من مثل هذا الصراع، قد تُستخدم عائدات الضرائب والأموال المقترضة لتحسين البنية الأساسية والبرامج المحلية مثل التعليم.
غالبًا ما توجد اقتصادات الحرب بدافع الضرورة عندما تشعر دولة ما أنها بحاجة إلى جعل الدفاع الوطني أولوية.
وغالبًا ما تُظهِر اقتصادات الحرب المزيد من التقدم الصناعي والتكنولوجي والطبي لأنها في منافسة، وبالتالي تحت ضغط لإنشاء منتجات دفاعية أفضل بتكلفة أرخص، ومع ذلك -وبسبب هذا التركيز- قد تشهد البلدان التي تعاني من اقتصادات الحرب أيضًا انحدارًا في التنمية والإنتاج المحلي.
زياد بهاء الدين: استخدام مصطلح اقتصاد الحرب في مصر ليس موفقًا
قال الدكتور زياد بهاء الدين، نائب رئيس الوزراء الأسبق، إن مصطلح اقتصاد الحرب ليس موفقًا، خاصةً أنه صدر في وقت ندعو فيه إلى زيادة الاستثمارات، ومن ثَمَّ فإن الحديث عن اقتصاد الحرب يثير الخوف.
وأضاف نائب رئيس الوزراء الأسبق أن تعبير اقتصاد الحرب ليس تعبيرًا بسيطًا، ويجعل المستمعين إلى التكالب على الشراء والتخزين، لافتًا إلى أنه من الأفضل التركيز على جهود دعم الاستثمار. مصر تواجه الكثير من الأخطار، مثل محور فيلادلفيا ومعبر رفح الحدودي مع قطاع غزة، بالإضافة إلى خلافها مع إثيوبيا بشأن سد النهضة، ناهيك عن المخاطر الناجمة عن الحرب في السودان وغيرها وبالتالي فإن هذا يعطي أولوية للإنفاق العسكري”.
وتابع: “ومع تراجع إيرادات قناة السويس بنسبة 60 بالمئة، حسب الأرقام الرسمية، وهبوط سعر الجنيه بعد التعويم الأخير، واستمرار ارتفاع التضخم، فإن كل ذلك سوف يؤثر على الأوضاع المادية للمواطن العادي.”
مع كل تلك العوامل مجتمعة، فمصر تسير باتجاه إعلان حالة (اقتصاد الحرب). وهذا ليس غريبًا أو جديدًا أو بعيدًا عن الوضع الحالي والمستقبلي سواء الإقليمي أو الاقتصادي المصري.
نبذة تاريخية عن مصطلح “اقتصاد الحرب”
ظهر مصطلح اقتصاد الحرب لأول مرة خلال الحرب الأهلية الأمريكية ما بين عامي 1861 و1865، ثم برز مجددًا مع الحرب العالمية الثانية عندما أشار الرئيس الأمريكي آنذاك فرانكلين روزفلت في أحد خطاباته إلى ضرورة التحول إلى اقتصاد حرب في حال انتصار دول المحور.
وتُعتبر الولايات المتحدة من بين أكثر الدول التي طبقت مفهوم اقتصاد الحرب خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية وحرب فيتنام.
وتُعدُّ ألمانيا القيصرية خلال الحرب العالمية الأولى نموذجًا مبكرًا لاقتصاد الحرب، إذ لعبت الدولة دورًا تنظيميًا للحياة الاقتصادية في البلاد يتيح لها وضع أولويات محل أخرى باسم الأمن القومي أو الأهداف الإستراتيجية العليا.
ويعني اقتصاد الحرب تحويل الاقتصاد الوطني بشكل كامل أو جزء منه لخدمة المجهود الحربي وتوفير احتياجات القوات المسلحة وما تتطلبه لخوض المعارك العسكرية وكذلك الدفاع عن البلاد.
ويعتمد اقتصاد الحرب على مجموعة من القوانين التي تتيح للدولة السيطرة على كافة الموارد وتُلزِم المصانع بتطبيق تغييرات جوهرية لتحقيق الأهداف وتحقيق التوازن بين الاحتياجات العامة للدولة بما فيها الاحتياجات العسكرية، ويشمل ذلك أيضًا تغييرات جوهرية بما فيها الضرائب.
وقد طبقت مصر اقتصاد الحرب قبل نحو 57 عامًا وتحديدًا في الفترة من 1967 وحتى 1973، عندما أعلن الدكتور عزيز صدقي رئيس الوزراء وقتها عن “ميزانية المعركة” التي جاءت بهدف تعبئة الاقتصاد وتنظيمه خلال فترة الحرب، وذلك بهدف توفير جميع احتياجات القوات المسلحة خلال فترة الحرب وتمويل المتطلبات الناتجة عنها.