الدكتور القس ﭽورﭺ شاكر
يقول علماء الاجتماع إن الإنسان كائن اجتماعي اتصالي، يرغب في العيش المشترك مع الآخر، وبدون التواصل مع الغير يفتقر الإنسان لإنسانيته وقيمته ودوره في الحياة. فلا شك في أن الإحساس بالوحدة شعور قاتل ومدمر لأي إنسان حتى لو كان رصيده مال الدنيا كلها، فمن ضمن احتياجات الإنسان الأساسية الحاجة إلى الحب، أي أن يكون محبوبًا من الآخرين ومحبًا لهم، ولهذا نرى أن الله عندما خلق آدم قال: “ليس جيدًا أن يكون آدم وحده، فأصنع له معينًا نظيره” (تك2: 18).
وفي العهد الجديد نجد أنه عندما سئل الرب يسوع عن أعظم الوصايا فقال: “تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل فكرك. هذه هي الوصية الأولى والعظمى. والثانية مثلها: تحب قريبك كنفسك” (مت22: 36-40).
هذا وعلى صفحات الوحي المقدس نرى أربعة أشكال أو مستويات في العلاقات الإنسانية وهي كالتالي:
أولاً: مقابلة الخير بالخير (عمل إنساني)
هذا النسق من العلاقات نجده بين الناس بصفة عامة، فنرى من تقاليد وعادات الشعوب أن الإنسان يحب مَنْ يحبه، ويجامل مَنْ يجامله في الأفراح والأتراح. ولا عيب في ذلك، فالرسول بولس يرسِّخ هذه المبادئ فيقول: “وادين بعضكم بعضًا بالمحبة الأخوية… مقدمين بعضكم بعضًا في الكرامة…. فرحًا مع الفرحين وبكاء مع الباكين” (رو 12).
كما أننا نلاحظ أن أفعال الإنسان لها دوافع وأهداف، فمثلاً نمدح رؤساءنا لكي يكافئوننا، ونكرم مرؤوسينا ليجتهدوا وينتجوا في العمل، ونحترم الأغنياء والأقوياء ليستخدموا نفوذهم وسلطانهم لخيرنا وليس ضدنا. أما الرب يسوع فيدعونا إلى محبة الآخر أيًا كان لأنه إنسان، بغض النظر عن الدين، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، ويرجع السبب في هذا كما يقول في موعظته على الجبل: “لأنه إن أحببتم الذين يحبونكم، فأي أجر لكم؟… وإن سلمتم على إخوتكم فقط، فأي فضل تصنعون؟” (مت5: 46، 47).
لقد لخص أحدهم الوصايا الإلهية بشأن العلاقات الإنسانية بقوله: “إن حب الله وحب الآخر بابان يُفتحان ويُغلقان معًا.”
ثانيًا: مقابلة الشر بالشر (عمل إجرامي)
يقول الرسول بولس: “لا تجازوا أحدًا عن شر بشر” (رو12: 7؛ 1تس5: 15).
وهذا ما قاله الحكيم في (أم24: 29): “لا تقل: كما فعل بي هكذا أفعل به. أرد علَى الإنسانِ مثل عمله.”
نعم! إن مواجهة الشر بالشر هو أسلوب الوحوش في الغابة حيث تتصارع وتتقاتل وتفني بعضها البعض… الكبير يأكل الصغير، والبقاء للأقوى الأكثر عنفًا وشراسةً، ومن الأسف أن هذا الأسلوب الإرهابي نراه أحيانًا بين البشر حيث يقول البعض: “كن ذئبًا حتى لا تأكلك الذئاب.”
كيف لا؟! ألم نقرأ عن شاول الطرسوسي قبل اختبار تجديده أنه كان ينفث تهددًا وقتلاً (أع9: 1)؟!
بل ألم يقل الرسول بولس وهو يخدم الله: “حاربت وحوشًا في أفسس” (2كو15: 32)؟!
ويحذر أهل غلاطية من هذا الأسلوب المدمر فيقول في (غلا5: 15): “فإذا كنتم تنهشونَ وتأكلون بعضكم بعضًا، فانظروا لئلا تفنوا بعضكم بعضًا.”
نعم! من يفكر أن يحفر قبرًا لعدوه، فعليه أن يحفر قبرين: واحدًا لعدوه، والآخر لنفسه. فهذه هي النتيجة الحتمية لمقابلة الشر بالشر.
ثالثًا: مقابلة الخير بالشر (عمل شيطاني)
هذا النموذج أسلوب شيطاني، وهو أبشع وأشنع النماذج في العلاقات البشرية، فهل لك أن تتخيل أن مَنْ تمد له يدك ممتلئة بالخير يأخذ الخير من يدك ثم يحاول أن يقطعها؟! وهل يخطر ببالك أن مَنْ تأخذه بالأحضان بكل حب وحنان يمد يده ويطعنك في ظهرك بأسلوب غادر جبان؟!
لعل هذا يذكِّرنا بيوسف عندما ذهب يسأل عن سلامة إخوته، ولكن للأسف في المقابل نسمع إخوته يقولون: “فالآن هلم نقتله ونطرحه في إحدى الآبار ونقول: وحش رديء أكله” (تك37: 20). وتتوالى أحداث الغدر والحقد والكراهية، ففي بئر عميق طرحوه، ثم بأبخس الأثمان، بعشرين من الفضة باعوه، وقاموا بتأليف كذبة على أبيهم بأن وحشًا افترس يوسف.
ويذكِّرنا أيضًا بداود الذي قدم لأعدائه محبة لكنهم رفضوا محبته وخاصموه وقاتلوه بلا سبب… قدم لهم خيرًا فقابلوه بالشر، فلجأ إلى عرش النعمة مصليًا، فوجد في إلهه العون والسند، فسطر في مزموره قائلًا: “قاتلوني بلا سببٍ. بدل محبتي يخاصمونني. أما أنا فصلاة. وضعوا عليّ شرًا بدل خيرٍ، وبغضًا بدل حبي” (مز109: 4، 5).
وهل ننسى ما حدث بسيدي الذي عاش على أرضنا يزرع الحب، ويوزع الخير، ويصنع السلام، ويبعث الرجاء، ويجري المعجزات هنا وهناك، ويقدم تعاليمه السامية لتلاميذه ومحبيه وسامعيه، ثم بعد ذلك نقرأ أن رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب أمسكوه، وحاكموه، وعروه، وعايروه، وجلدوه، ثم صلبوه” (مت26: 3، 4)؟
وأسفاه أن يقابل الإنسان الخير بالشر فهذا أسلوب شيطاني.
رابعًا: مقابلة الشر بالخير (عمل إيماني)
سطرت ريشة الوحي المقدس في (رو12: 21): “لا يغلبنك الشر بل اغلب الشر بالخير.”
وهذا ما علمنا إياه الرب يسوع في الموعظة على الجبل عندما قال: “أحبوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم” (مت5: 44). وأعتقد أن هذا يفسر ما قاله الرسول بطرس (1بط3: 9): “غير مجازين عن شر بشر أو عن شتيمة بشتيمة، بل بالعكس مباركين.” وما قاله الرسول بولس في (رو12: 20): “إن جاع عدوك فأطعمه. وإن عطش فاسقه.”
بالطبع هذا ليس بالأمر السهل اليسير، كما أنه ليس بالمطلب المستحيل. فالله لا يطلب منا المستحيلات بل الممكن والمستطاع، فقط الأمر يحتاج إلى مزيد من المران والتدريب على ذلك بروح الاتضاع والصلاة، ليكون لنا فكر المسيح، وعندئذٍ نستطيع أن نغلب الشر بالخير.
هذا يذكرني بقصة خادم أمريكي عظيم اسمه بيتر مللر الذي كان له خصم عنيد شرير، لا يهدأ ولا ينام إلا عندما يدبر المكائد والفتن التي يضايق ويؤذي بها خادم الله، وكان بيتر مللر يرد على الإساءات والافتراءات بالصلاة من أجله.
وفي يوم من الأيام ارتكب ذلك الرجل جريمة، واقتيد إلى ساحة القضاء، وحُكم عليه بالإعدام، فما كان من خادم الرب بيتر مللر إلا أنه أسرع إلى الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت ﭽورﭺ واشنطون، يطلب منه العفو عن المتهم، فقال له واشنطون: “يؤسفني إنني لا أستطيع أن أعفو عن صديقك.” فقال مللر: “تقول صديقي؟!! لا يا سيدي… هذا ليس صديقي… بالعكس، إنه أصعب وأشرس عدو عرفته في حياتي… إن وقتك لا يتسع يا سيدي لأحكي لك عن مقدار الآلام التي أعانيها منه بسبب المشاكل التي يدبرها لي.” وذهل واشنطون لمجيء رجل يطلب العفو عن عدوه، وقال له: “الآن الأمر يختلف.” وعفا عنه، وأسرع خادم الله بيتر مللر يحمل قرار العفو لعدوه، وظـن الرجل أن مللر جاء ليتشفى فيه بإعدامه، ولم يصدق عينيه وهو يرى الرجل يمسك في يده قرار العفو والحرية.
لقد ذاب قلبه الحجري الصلد أمام صدق محبة مللر، وارتمى في أحضانه باكيًا، معتذرًا عن كل المضايقات والمشكلات التي دبرها له، وللوقت رفع صلاة توبة من أعماقه، ليبدأ حياة جديدة في المسيح يسوع.
ومنذ تلك اللحظة صارت بينه وبين مللر صداقة حميمة وعلاقة وطيدة فوق حد التصور.
نعم! إن مقابلة الشر بالخير هي عمل الإيمان.
عبرة في عبارة: (عندما تفقد الرغبة في عتاب من كان يومًا من الأيام على رأس قائمة الأحباب
فاحذر لئلا يلفظ حبك أنفاسه الأخيرة، وتودعه إلى مثواه الأخير من أوسع الأبواب
التمس الأعذار والأسباب، فالحب لا يسقط أبدًا طالما هناك همسة عتاب).