د. أماني ألبرت
تدور القصة في مدينة شوشن عاصمة بلاد فارس في عهد الملك “أحشويروش” المعروف باسم زركسيس الأول الذي حكم 127 مملكة.
(شبنة هو ابن عم الطفلة التي ماتت أمها أثناء ولادتها وسبقها أباها، اتفق شبنة مع عمته رفقة أن تسمى الطفلة اليتيمة هداسا… كانت العمة “رفقة” هي الأم الروحية لكل أبناء عشيرتهم.. أضاع “أبيحائل” والد الطفلة، قبل مماته ثروته مع تجار غرباء ولم يحتمل الخيانة فمرض..
وبسبب علاقة شبنة (مردخاي) بهذه الطفلة الصغيرة التي غزت محبتها قلبه، أعاد اكتشاف نفسه. فقد وجد أنه ما زال قادرًا على العطاء والحب والاهتمام.. واختبر مشاعر من نوع جديد أضفت الحيوية والانتعاش على حياته. (يمكنك قراءة الحلقات السابقة على موقع الجريدة..
بعد يوم عمل طويل، بدأ “مردخاي” يجمع رقوقه وحبره استعدادًا للمغادرة مثل الجميع… وقد مر اليوم مُحبِطًا.. فقد كانت عيناه على الباب منتظرًا أن يرسل “أوروك” لـ “إنليل” أي رسول، ولكن لم يحدث شيء.
فكَّر قبل العودة أن يعرج على صديق قديم لجده في القصر.. قد يعطيه إفادة بخصوص السفن القادمة والمغادرة وإلى أين..
بالفعل ذهب وقابله .. فقال له الرجل إننا نعيش في إمبراطورية كبيرة والسفن تأتي وتغادر كل يوم.. كما هو مسجل عنده فيما يخص الأمس وأول أمس.. ولكنه طمأنه إذ سيسأل مسئولي الموانئ عن مواصفات الطفل..
استعد “مردخاي” للعودة في طريق بيته مهمومًا.. سار في الزقاق المؤدي للحي الذي يسكن فيه، وكان يعلم جيدًا أن أول مَنْ سيقابله على رأس الطريق هو والد الطفل.. أراد أن يرتب أفكاره قبل أن يلتقيه.. ماذا يقول له؟ وظل طوال الطريق يناجي نفسه:
– سأقول له لم أصل بعد لشيء؟ كلا، سأقول إني قابلت رئيس الشرط الذي تحرك وأرسل جنوده يبحثون عن الصبي. ولكن .. هل أكذب؟ لا.. لا..
– ولمَ لا؟ أنا لا أريد أن تهتز صورتي أمامه، كما أن هذا سيطمئنه جزئيًا حتى يرسل “أوروك” ردًا.
تحدث “مردخاي” بحسم مناجيًا نفسه:
– لا تكذب.. لا تحلف.. ما قيمة الوصايا التي حفظتها منذ نعومة أظفارك؟.. وكيف ستقف لتصلي وأنت تهتم بصورتك ولا تهتم بأن تحفظ الوصايا؟
وبينما هو غارق في أفكاره.. ربت أحدهم على كتفه من الخلف، فالتفت ليجد “صادوق” واقفًا خلفه وعيناه يملأها الرجاء..
– هل توصلت لشيء سيدي “مردخاي”؟
حك “مردخاي” أرنبة أنفه بتوتر وقال:
– نعم.. لا.. آسف.. لقد تم إبلاغ رئيس الشرط اليوم.
– وماذا قال؟
– ننتظر الرد.. سنسير في اتجاهين: الأول من خلال رئيس الشرط وجنود الإمبراطورية حتمًا سيمشطون الأماكن المحيطة
– إذًا ليس لديك شيء؟.. والثاني؟
– أن ترفع دعواك عند بوابة كل الأمم في برسيبوليس.
– وهل تظن أنهم سيلتفتون لشخص فقير مثلي؟
– نعم يمكنك الدخول من البوابة الشرقية وهناك تطرح دعواك.. وسألت أيضًا عن السفن القادمة والمغادرة وقد أكد لي المسئول أن السفن تتحرك كل يوم.. وأعطيته أوصافه وسيتابع مع مسئولي الموانئ..
– ولكن…
– آسف.. ربما غدًا يأتي إلينا خبر من رئيس الشرط . مثل هذه الأمور لا تنتهي في يوم وليلة.
– نعم .. ولكني لا أعرف ماذا سأقول لأم “يؤاخ”؟
– قل لها الحقيقة.. لا تكذب عليها.
– سأري.. هل ألقاك غدًا في نفس المكان والموعد؟
هز “مردخاي” رأسه محاولًا أن يخفي تعاطفه.. وعدم وصوله لشيء.. وإحباطه. ففكرة الفقد في حد ذاتها صعبة، وما بالك مَنْ؟ ابنهما الصغير.. ثم ودع “صادوق” ومضى في طريقه..
وما أن تحرك حتى ومض ذهنه بذكرى لقاء كل يوم.. أميرته الصغيرة “هداسا” وهي تنتظره على باب البيت مهما تأخر وتجري نحوه وتغوص داخل عباءته وهو يحتضنها. فاسترخي واستراح وعلت ابتسامة خفيفة ملامحه الجامدة..
وصل “مردخاي” عند البيت ولكن لم تكن “هداسا” واقفة كعاداتها!.. نادى عليها عند الحديقة بلحنه المعتاد.. أميرتي الصغيرة.. “هداسا”.. نادى مرة ومرتين.. طرق باب المنزل.. فتحت العمة “رفقة” وهي مبتسمة.. دخل “مردخاي” مسرعًا ومتسائلًا:
– أين هي؟
– مَنْ؟
– “هداسا”
– هنا أو هناك، لقد كانت تلعب مع الأطفال في الخارج. لماذا؟ ماذا بك؟
أصفر وجه “مردخاي”، وكأن الدم تجمد في عروقه، وبدا عليه القلق الشديد.. ورغمًا عنه ربطت أفكاره بين اختفاء الطفل “يؤاخ” ومخاوفه من اختفاء “هداسا”.. أفزعته أفكاره ما دفعه للخروج خارج باب البيت لينادي بصوت هستيري:
– “هداسا”.. “هداسا”.. “هداسا”.. أين أنتِ؟ “هداسا”.. “هداسا”.. “هداسا”.. أين أنتِ؟
خرجت العمة “رفقة” وراءه مسرعة..
– ماذا بك، “مردخاي”؟
أتى “عماسا” و”يوسف” متعجبين من خروج “مردخاي” عن طبيعته الوقورة.. بل أن كل مَنْ في نطاق الدائرة المحيطة توقف عن الكلام أو العمل ملتفتَا لصوته الجهوري وندائه الهستيري..
– عمي “مردخاي”.. ماذا هنالك؟.. لا تقلق لقد كانت هنا من قليل..
لم يكد “عماسا” ينهي كلمته.. حتى ظهرت الصغيرة من خلف الأشجار المزروعة حديثًا بجانب البيت وأتت من خلف “مردخاي” وقال له صوت مفاجئ:
– هاااااااه
انتفض “مردخاي” مما حدث.. فقد أفزعه صوتها.. خالجه شعور متناقض.. كان سعيدًا لأنه أطمأن بعد قلق شديد.. ولكن من ناحية أخرى تضايق لأنها أحرجته قدام الجميع.. حتى أنه لمح “عماسا” يخفي ابتسامته من على فكه المتدلي.. وهي التي ظلت تضحك لأن لعبتها معه نجحت.. ولأجل ماء وجه صرخ فيها بصوت عالٍ مشيرًا بيده:
– إلى المنزل.. الآن.
انقشعت ابتسامتها البريئة، فقد صدمها رد فعله.. وفي الحال انفجرت في البكاء ثم ركضت للداخل.. ودخل “مردخاي” وراءها غير عابئ بالواقفين حوله.
كاد يمزقه صوت صراخها.. أراد أن يذهب إليها ويحتضنها ويعتذر لها بسبب صراخه في وجهها ولكنه لم يعرف كيف يفعل ذلك، فقد وجد الأمر ثقيلًا عليه .. لم يتذكر أنه تصرف هكذا من قبل..
تضايق من نفسه وفي نفس الوقت أراد أن يخبرها أنه مات خوفًا عليها.. حتى العمة “رفقة”.. تركت إعداد مائدة الطعام وذهبت وراءها.. لم يحتمل صوت بكاء أميرته الصغيرة الذي مزق قلبه.. فترك كل وقاره ودخل مسرعًا وراءها.. ودون أي تفكير تصرف على غير طبيعته..
– آسف، حبيبتي.. أميرتي الصغيرة.. آسف، لم أقصد أن أفزعك أو أخيفك
زاد بكاء الطفلة.. والعمة “رفقة” تراقب وقد عقدت حاجبيها باستغراب.. هذا ليس “مردخاي” الذي أعرفه.. أنها الآن أمام “مردخاي” جديد.. له قلب رقيق.. ولم يعد يخفي مشاعره وراء ملامحه الجامدة.
لم ينتظر طويلًا.. ولكنه سارع نحوها فاتحًا له يديه فارتمت في حضنه.. باكية
خرجت العمة “رفقة” لتنتهي من ترتيب مائدة الطعام.. قبل أن تغادر إلى بيتها.. وقد أدركت أنه لا حاجة لها الآن.. فقد وجد كلاهما طريقة للوصول لقلب الآخر.
رحلت العمة لبيتها.. ولم يترك “مردخاي” “هداسا” إلا بعد أن تأكد من أنها لا تبكي.. قام ليغتسل من تراب الطريق وغسل لها وجهها الرقيق الملائكي ويديها استعدادًا لتناول الطعام.
بعد أن انتهيا من تناول الطعام.. ذهبت “هداسا” لتجلس بجواره كالعادة وتحدثت معه بكل براءة وتلقائية وكأن شيئًا لم يحدث قائلة:
– ما هي قصة اليوم؟
تأمل “مردخاي” وجهها الملائكي وقد أعطاها رونقًا كالأميرات.. بعينيها المعبرتين ورموشها الطويلة وأنفها الدقيق بنقاط النمش المتناثرة ووجنتيها الورديتان وثغرها المبتسم.. فملس على شعرها الأحمر الناعم.. ونظر مباشرةً في عينيها العسليتين.. وقال مبتسمًا ومتمنيًا أن يكون في مثل براءتها يومًا:
– أميرتي الصغيرة.. لماذا اختفيتِ هكذا؟
– لقد أردتُ أن ألعب معك.
– كيف؟
– تخيلتُ نفسي “يؤاخ” الضائع… ههههه
نهرها بصوت عالٍ قائلًا:
– لا.. لا تقولي هذا.. ثم من أين عرفت قصة “يؤاخ”؟
علت ملامح القلق وجه الصغيرة من جديد .. فأدرك “مردخاي” أن صوته العالي أفزعها.. فقال لها بصوت هادئ حنون:
– لماذا، حبيبتي؟ أنتِ لا تعرفين ما الذي يمكن أن يحدث لي إن ابتعدتِ عني؟ سأموتُ..
قالت بصوت مرح:
– ههههه.. أبي “مردخاي”.. كلا، لن تموت.. ستبحث عني حتى تجدني ثم تصرخ في وجهي ثم تحتضني..
– لماذا فعلتي هذا؟
– لا أعرف.. أردتُ أن ألعب معك. هل ستحكي لي قصة اليوم؟
– لا تفعلي هذا مرة أخرى.. هلا تعديني؟
هزت رأسها وهي تفرك عينيها بيديها الصغيرتين وقد غالبها النعاس..
– هل ستحكي لي القصة؟
بدأ “مردخاي” يحكي لها قصة جديدة تتحدث عن إحسان الله.. وبينما يحكي غالبه النعاس.. بينما انتبهت هي لتتابع أحداث القصة!