أشرف ونيس
شيء ما يجدد قوانا وينتشل أنفسنا من مقبرة اليأس، لا نعرف كنه ذلك الشيء، فهو غير مرئي، ولا يمت بالمادية بأي صلة، يتداخل بطريقته الخفية في داخلنا وخارجنا، نراه وقد أثَّرَ في دائرة محيطنا مرارًا و تكرارًا، في الوقت الذي لا يغفل فيه أن يعمل في دائرة أعماقنا وباطننا أيضًا، يُطلق عليه من تلك الكتب المسماة عرفًا عند البشر بـ “الكتب السماوية الثلاثة” بأنه الروح القدس أو روح الله القدوس، له العديد من الألقاب، كما أن له وافر من الأعمال، له الكثير من الأماكن في قلوب البشر بينما يحوي في أعماقه كل زمان ومكان، له رقيق صوت نسمعه أحيانًا يهمس بل يسري في أعماق كل منا، في الوقت الذي لا يتوانى فيه أن يزلزل بصوته كل كبير من أمامه. يدير كل شيء ويتحكم في كل أمر، وبينما تتخلل جذوره كل موجود في الوجود، فهو لا يتورع أن يعمل عمله الرهيب في دائرة عقولنا ونفوسنا وقلوبنا أيضًا.
1- عمل روح الله في العقل:
يعمل عمله الخفي في مراكز الوعى والشعور في المخ، كما لا يفوته أن يعمل في دوائر اللاوعي واللاشعور بالدماغ أيضًا، يغير اتجاه التفكير، ويقلب منحى الإحساس، ويوسع من قدر الإدراك، كما لا يتورع في أن يعمل في مراكز الذاكرة لدينا؛ فنتذكر أشياء وكلمات قد تكون مكتوبة أو منطوقة يبعث بها الروح في وقتها وفي ساعتها، وقت وصود كل أبواب للرجاء أمامنا، وكل منافذ للأمل في وجوهنا، كلمات تشد من أزرنا، وترفع هامة رؤوسنا، وتنصب أعوادنا، وتكللنا بالهدوء وقت زخم محيطنا، وقد تزرع الشموخ والتفاخر في صدور البعض وإن كانوا قليلين.
2 – عمل روح الله في القلب:
بيد أنه لا يكتفي فقط بعمله في تلك المادة العصبية الرخوة التي تملأ وتشكل رأس الإنسان وهو المخ البشري، فإنه ينتقل في ذلك إلى واحدة من أهم أعضاء جسم الإنسان الأخرى وهو القلب، فهو من شأنه أن يسيطر على نبضاته من حيث ازديادها أو نقصانها، يتحكم من حجم عضلته من جهة انقباضها أو انبساطها، يغير من منسوب ضغط الدم في الجسم من حيث ارتفاعه أو انخفاضه إلا أنه دائمًا ما يجعله منضبطًا في كل الأحوال، يساعد على تحسن عملية التنفس بشكل كبير إذ أنه يزيل التوتر والقلق مما يؤثر إيجابًا على القلب وضرباته وبالتالي على ضغط الدم فالتنفس، له عمله السحري وإن كان غير سحري على دائرة العواطف والمشاعر ومحبتنا وقبولنا لأنفسنا ثم للآخرين.
3- عمل روح الله في النفس:
له دور رئيسي في بعث الهدوء والاستقرار والطمأنينة في أنفسنا وأرواحنا، مما يكون له بالغ الأثر على وجوهنا وأجسامنا، وهو في ذلك له دور آخر غير ذلك الذي يعمله في أعضائنا الداخلية ألا وهو شكلنا الخارجي، فهو له خبرة لا محدودة في ارتسام البسمة على شفاهنا، كما له عمل غريب لا تفسير ولا مبرر له إذ بإمكانه أن يجعل وجوهنا تشع بالضياء وسط ظلمة أيامنا وحلوكة ليالينا، يقهر الحزن قهرًا فيتوارى ليحل محله فرح لا يصوغ لإنسان النطق به، يعتبر مبعثًا للأمان وسط هدير العواصف وجيشانها، كما إنه مبعث للسكينة وقت انزعاج البشر وثورة الكل، يرتعب منه القلق فيتلاشى ليحل محله كل ما هو منافٍ للرهبة والخوف والاضطراب.
4- تحكمه في مجريات الأمور:
بإمكانه أن يغير الظروف ويبدل الصروف، فيخرج من السجن إلى العرش، ومن الجلوس في المزبلة للجلوس مع عُلية القوم وأشرافهم، وإن لم يفعل ذلك في الظروف فهو يعمل ذلك معنا نحن، فيكللنا بالصبر وسط الظروف حتى يأتي وقته ليغير الكل إذ أنه ضابط الكل. يتحكم تحكمًا سياديًا في مجريات الحياة، قد يتداخل بقوته ليمنع نوائب، وقد يتحكم بسلطانه فيسيطر على تلك النوائب ليجعلها في نهايتها خيرًا عظيم لمن وقع بها ووقعت عليه. لا يعترف بأقدار إذ أنه فوق الأقدار، فهو يتحكم في كل نهاية ومن عنده تبدأ كل بداية، ما من مصير إلا وقد خرج أمر السماح به من أمامه، وما من بلية إلا وقد أقر لها بخط لا تتعداه، يضع حدًا لكل شيء بما فيه إرادة البشر فتتحرك كيفما شاءت لكن في إطار ما رسمه وما أراد به.
5- تصور البعض عن روح الله:
هو في ذلك مثل ريح تهب لا نعرف اتجاهها ولا من أين تأتى ولا إلى أين تذهب، يفسرها البعض من الملحدين على أنه تأثير نفسي أو إيهام عاطفي يؤثر على الكيان بأكمله فيعمل عمله السيكولوجي مما يكون له الأثر على كافة النواحي الفسيولوجية في الجسم، ويفسره البعض الآخر ممن يؤمنون بالله على أنه ما هو إلا روح الله، وهو يسكن داخلنا، لا يحده داخلنا إذ إنه غير محدودة بإطار معين، لكنه يشكل عنصرًا فعالاً بالداخل فيسيطر على انفعالاتنا وطباعنا، كما أنه يغير من عاداتنا السيئة ويحررنا من كافة أنواع الإثم فنمسي وكأننا توًا مولودين من رحم أمهاتنا.
6- القوة المطلقة التي لروح الله:
وإن كان روح الله فهو له في ذلك كل ما هو لله، إذ أن الله وروحه واحد، فهو خالق، إذ يخلق الأمل بين دروب اليأس، وينشئ الصبر وسط غمرة الانتظار، كما أنه يسيطر على الزمن إذ أنه خالق الزمن، فيخلق البداية وقت النهاية، ويأمر بالأوائل وقت الأواخر، يسيطر على الأحداث ويتحكم في كل الناس، يجمع الأحداث في نقطة تلاقي واحدة لتعمل كلها في خدمة مقاصده تعالى، يجدد، يخلق، يقيم، يحيي، ويعمل كل ما يعمله الله، نعم فهو روح الله الذي هو الله.
7- موقفنا كبشر إزاء روح الله:
إن كان روح الله مطلق الوجود فأين سنذهب نحن إزاء هذا الوجود المطلق؟ وإن كان كلي العلم فما هو في مقدورنا أن نخفيه أو نخبئه عبر الزمن أو حتى خلال الأبدية وقت اختفاء الزمن؟ إن كانت الحدود لتلك القوة الإلهية قد أفضت إلى العدم؛ فماذا عسانا أن نفعل إن غضب وقت أن يتصلب فينا ما هو مخالف لمقاصده؟ بل وإن كانت قداسته لا تستحسن السماء في طهارتها؛ فماذا سنفعل إن نظر إلينا بنظرته الفاحصة للأعماق وقد اعترانا الفشل في استقامة نفوسنا وأرواحنا؟
إن كنا منه وله، فاللجوء إليه هو الوجود لنا وغير ذلك هو الهلاك بعينه، و إن كان لا وجود لنقطة فراغ من وجوده في خط السرمدية اللامحدود فكان لزامًا علينا الذهاب له والالتجاء إليه، والعيش في كنفه، تحت حمايته وفى ظل بركته، نستدفئ حمايته لنا من أنفسنا أولًا ثم من غيرنا ثانيًا، نسترشد بإرشاده، ونستبصر بعلمه، لنبقى طيلة الحياة زمنًا وابدًا لا خانعين بل خاضعين حبًا وتقديرًا لمن هو الأول والأخر له كل المجد.