هل قصة الخليقة في (تكوين 1، 2) هي بالأسلوب الأسطوري الشعري مثل غالبية قصص الشرق الأدنى القديم عن أصل العالم، أم أنها كُتبت بأسلوب آخر وتنتمي لنوع أدبي آخر؟ ماذا نجد في تكرار بعض العبارات، وما يبدو من صيغ غير مقبولة في وصف أعمال الله في الخليقة؟ والأكثر من ذلك هو الطريقة التي يبدو عليها الله بأن له يدان وأنف وما أشبه. ألا يكفي هذا لإقناع أي شخص مفكر بأن هذه ليست قصة طبيعية مباشرة عما حدث في الخليقة؟
ليس ثمة مجال للشك في حقيقة أنه يوجد في هذه الإصحاحات قدر كبير من المجاز. وفي الواقع هناك كتاب هام عن “المجازات في الكتاب المقدس” بقلم “أ. و. بولنجر” يسجل أكثر من 150 مثالًا من هذه المجازات في سفر (تكوين 1: 1-11: 32)، ولكن ليست هذه هي القضية لأن كل كلام الأساليب الأدبية لا بد أن يحتوي على بعض، إن لم يكن كثير، من هذه المجازات. فالكلام عن الله بأن له أعضاء بشرية إنما هو نوع من المجاز، أي خلع الصفات البشرية على الله.
ولكن قضية الأساليب الأدبية هي موضوع منفصل. فالتصريح بأنه طالما أن اللغة المجازية مستخدمة فيمكننا أن نفترض أن المادة الواردة في (تكوين 1-3) هي أقل من وصف دقيق لأحداث حقيقية إنما هو قفز لنتائج، إذ قد يمكن على أي حال استبعاد بعض الأقوال الأخرى لأنها لا ترتفع إلى مستوى المعايير النظامية التي تُعتبر المقياس في مثل هذه الأمور.
فأول كل شيء القصة الكتابية عن الخليقة تخلو تمامًا من الصور والأقوال الأسطورية، وكل المحاولات لرؤية أي تلميح للإلهة “تيمات” في الكلمة العبرية “تيهوم” أي الغمر (تكوين 1: 2) اتسمت بالفشل من البداية لأن مثل هذه المطابقة بين الكلمتين تهدم كل قواعد علم الصرف والترادف في اللغات الشقيقة. ولا يوجد أحد من العلماء اليوم يستند إلى هذا كدليل على أن الكتاب المقدس يضم أساطير، ولا أن الإشارة إلى أن روح الله كان “يرف على وجه المياه” في نفس العدد هي نوع من التلميح المقنَّع إلى الأسطورة الفينيقية بأن العالم فقد فقس من بيضة كونية. وباختصار لا يوجد في القصة الكتابية عن الخليقة ما يربطها بأساطير الشرق القديم عن نشأة الكون.
كما لا نستطيع أن نقول إن (تكوين 1، 2) شعريان في الصيغة، فصيغة الفعل في العبرية هي تمامًا نفس الصيغة التي تُستخدم على الدوام في القصص العبرية. وعلاوة على ذلك، فإن الشعر العبري قلما -إن لم يكن مطلقًا- يستخدم “الصيغة الدلالية” للمفعول المباشر، بينما (تكوين 1، 2) يستخدمانها في النثر وليس في الشعر، وعليه فإن هذه الأقوال لا يمكن اعتبارها شعرًا مطلقًا.
فما نجده – على أي حال – هو قصة منطقية دقيقة لأحداث وُصِفت بكل دقة بعبارات خالية من أي مجازات. وهناك تدقيق أكيد في كل تعريف وتسمية وتقييم وترتيب كل الأحداث، وعليه فإن هذه الأقوال أقرب ما تكون إلى النثر القصصي منه إلى أي شيء آخر.
وبينما لا يمكن أن توصف قصة التكوين بأنها “تاريخية” بالمعنى الشائع للكلمة التي يكثر استخدامها للدلالة على حقائق مؤيدة من مرجعين أو شاهدين أو أكثر، فإنها بكل تأكيد تبدو أنها تسجل أحداثًا واقعية خلال وقوعها في عالم الزمان والمكان.