القس رأفت رؤوف الجاولي
إن الدعوة الالهية المقصودة هي رحلة المؤمنين العمر كله في رفقة الرب، مدركين قيمة أن يعيشوا كما يحق لإنجيل المسيح. والكتاب المقدس كله يسطر لنا مدي التغيير العظيم في كل مَنْ اتبع الرب بكل القلب ووثق تمامًا به.
فإبراهيم أبو الآباء لما دعاه الرب أن يترك وطنه وأهله وعشيرته، ويمضي إلى المكان الذي يريه، لم يتردد، بل خرج وهو لا يعلم إلى أين يذهب (عبرانيين 11: 8). لم تكن الأرض ولا العشيرة هي هدفه، إنما هدفه هو الله الذي من أجله يترك كل شيء.
كذلك لما أمره الرب أن يقدم ابنه وحيده ذبيحة، لم يتردد مطلقًا، ولم يفكر، ولم يدخل في صراع داخلي. إنما بكر صباحًا جدًا وأخذ ابنه، ومعه الحطب والنار والسكين. لم يكن الابن هو هدفه، وإنما الله هو الهدف.
أولًا: الطريق لفهم الدعوة المسيحية
إن الوصية الأولى المعطاة من الله لنا كانت: “أثمروا وأكثروا”. فنحن لم نُخلق لمجرد أن نكون موجودين. خالقنا يتوقع منا أن نكون منتجين بكثرة. والمسيح ضرب مثلًا بثلاث عبيد كل منهم أخذ كمية معينة من الأموال من سيده. اثنان منهم استثمرا ما لديهما من أموال وقدموا حصيلة جيدة، بينما الثالث الذي كان كسولًا ومرتخي اليدين فقد احتفظ بالأموال ولم يستثمرها. الاثنان المثمران أخذا مكافآت لاجتهادهما بينما العبد الثالث الذي احتفظ بالأموال دون الانتفاع بها قد عوقب من سيده جزاء تهاونه الشديد.
إننا بالتأكيد لم نُخلق لنكون كسالي غير نافعين. بالطبع كلنا مجهدون في حياتنا لكن ليس كل إجهاد هو سيئ أو غير نافع، فقد تعلمنا في علم الفيزياء أن الإجهاد هو ببساطة القوة الضاغطة على جسم ما لتغيير شكله أو مساره، أي هناك نفعًا حتى لو بدا الامر صعبًا. وهناك نسيج دعوة عامة في الشركة مع الله ونسيج دعوات خاصة تشمل الرحلة مع الرب يومًا فيومًا. وتلك الدعوة تشمل كلَّ نواحي تعامل الإنسان مع العالم، كالعمل، والعلاقات الأسرية. ففي كلِّ مجال من هذه المجالات، يكون حامل صورة الله وهي المهمة التي تعكس عمل الله عندما أوجد الخليقة ممَّا كان “خَرِبًا وَخَالِيًا” (تكوين 1: 2). يمكن تعلُّم دروس قيِّمة من كلمه الله:
1- دعوة الله في حياتنا تتيح لنا الفرصة لنحب الرب إلهنا من كلِّ كياننا (تثنية 6: 4-5). وبالتالي، لا يمكن لدعوة الله أن تطالبنا بارتكاب خطية. فعلينا أن نسعى إلى تتميم الدعوة المسيحية تعبيرًا منا عن إيماننا بالله، مستبعدين أية دعوة يمكن تتميمها بطريقة آثمة، أو هدَّامة، أو على نحو يفتقر إلى الإيمان.
2- يحبُّ الله أن يعطي شعبه عطايا دعوته الصالحة (مزمور 37: 4؛ متى 6: 28-33؛ 7: 11). وعلى المؤمنين أن يتوقعوا أيضًا أن تنضج مشاعرهم وتتشكَّل بفعل العمل الذي يقومون به
3- الدعوة المسيحية خدمة لله وللآخرين. “إن تتميمنا السليم لدعوتنا الأرضية هو ما يُعدُّنا للخلاص الأبدي، واهتمامنا بما فوق هو ما يؤهِّلنا للتلبية السليمة لرغباتنا الأرضية”. فعندما نتبع دعوة الله في هذه الحياة، نستعد للأبدية، وعندما نبقي الأبدية نصب أعيننا على الدوام، سنجد في الحاضر شبعنا الحقيقي.
ثانيًا: مفاجات الدعوة الإلهية
كل تلاميذ المسيح أعطاهم شرف الرسولية، دون أن يطلبوا…
أكان يطلب هذا بطرس وأندرواس وهما مشغولان بالصيد والشباك؟! أكان يطلب هذا متى وهو في مكان الجباية؟! وهكذا كل الباقين. والرب قد أوضح هذا الأمر حينما قال لتلاميذه: “لستم أنتم اخترتموني، بل أنا اخترتكم، وأقمتكم لتذهبوا وتأتوا بثمر، ويدوم ثمركم” (يوحنا 15: 16).
وكذلك أيضًا الأنبياء نالوا جميعهم النبوة، دون أن يطلبوا…
داود وهو صبي صغير يرعَى الغنيمات القليلات في البرية، أكان يفكر أو يطلب أن يصير مسيح الرب، وأن يختاره الرب دون إخوته الكبار ودون كل الشعب ليصير نبيًا له؟ أما اختاره الله دون أن يطلب؟!
وكذلك إرميا الصغير الذي قال: “لا أعرف أن أتكلم لأني ولد” أكان يحلم أن يصير نبيًا للشعوب، أو كان يطلب هذا؟ أم أن الله دعاه دون أن يطلب؟!
وهكذا إبراهيم أبو الآباء، الله هو الذي دعاه (تكوين 12: 1).
وبالمثل كل الأنبياء الذين انطبق عليهم قول الكتاب: “الذي سبق فعرفهم، سبق فعينهم… والذين سبق فعينهم، هؤلاء دعاهم أيضًا” (رومية 8: 29-30) الله هو الذي اختار كل هؤلاء دون أن يطلبوا…
ومثال واضح جدًا هو شاول الطرسوسي الذي كان يضطهد الكنيسة.
أكان شاول يفكر أن يصير رسولًا من رسل المسيح؟! مستحيل. بل إنه كان يقاوم المسيحية بإفراط. ومع ذلك نقرأ أن السيد المسيح ظهر له في الطريق دمشق، ودعاه دون أن يطلب، واختاره رسولًا للأمم. ونسمع الروح القدس يقول للرسل: “افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه” (أعمال 13: 12).
وبالمثل، هل كانت راعوث تفكر أن تكون جدة للمسيح؟!
قطعًا ما كان يخطر لها هذا ببال، وهي امرأة أممية غريبة الجنس! ولكن الله “يدعو الأشياء غير الموجودة كأنها موجودة” (رومية 4: 17). ألا يعطي هذا الرجاء للناس؟!
وأكثر من هذا راحاب. أكانت تطلب أن تصير جِدَّة للمسيح؟!
لعل أقصى ما كانت تطلبه هو الأمان لنفسها ولأهلها في وقت اقتحام أريحا. أما أن تصير ضمن شعب الله، فقد كان هذا كثيرًا عليها جدًا. ولكن أن تصير جدة للمسيح فهذا لم تطلبه إطلاقًا، بل لم يخطر على بالها، ولم تحلم به ولكن الله الحنون يعطي دون أن نطلب. يحتاج الأمر أن نؤمن بمحبة وكرمه واهتمامه بنا.
أخيرًا:
لا يريد الله مسيحيين مشوشين، حائرين، ومحبطين، يتجولون بقلق بحثًا عن مشيئته. بل يريد أناسًا يسيرون بثقة وسلام في مشيئته. لا بد من اختبار مزيد من الحرية والثقة بالمسيح. الله لا يكف عن متابعتك وتوجيهك نحو خطته. تذكَّر، إنها دعوته في حياتك، لذا فهو أمين في مساعدتك على تحقيقها. في جميع أنحاء الكتاب المقدس، يمكننا أن نتعلم عن دعوة الله في حياتنا.