د.أماني ألبرت
(شبنة هو ابن عم الطفلة التي ماتت أمها أثناء ولادتها وسبقها أباها، وقد اتفق شبنة مع عمته رفقة أن تسمى الطفلة اليتيمة هداسا. كانت العمة “رفقة” هي الأم الروحية لكل أبناء عشيرتهم. أضاع “أبيحائل”، والد الطفلة، قبل مماته ثروته مع تجار غرباء ولم يحتمل الخيانة فمرض.
وبسبب علاقة شبنة (مردخاي) بهذه الطفلة الصغيرة التي غزت محبتها قلبه، أعاد اكتشاف نفسه. لقد وجد أنه لا زال قادرًا على العطاء والحب والاهتمام، واختبر مشاعر من نوع جديد أضفت الحيوية والانتعاش على حياته. تطورت العلاقة بين شبنة والطفلة الصغيرة وأصبح يخاف عليها من أي شيء. التحق مردخاي بالعمل في القصر الملكي. وذات يوم، أقام الملك حفلًا كبيرًا تسللت إليه هداسا سرًا، رأت أمور لم تتوقعها، عاد مردخاي من الاحتفال متوعكًا. وفي أحد الأيام عاد مردخاي ووجد الحزن يخيم على بلدته واكتشف ما كان يخاف منه لقد أخذوا هداسا إلى القصر فماذا يحدث لها (يمكنك قراءة الحلقات السابقة على موقع الجريدة.)
كان هذا أسوأ يوم في حياة “مردخاي”.. أسوأ من يوم موت زوجته.. وابن عمه ومريم.. فقد أخذوا قطعة من قلبه.. وفي القصر تجلد محاولًا ألا يبدو عليه أي تغيير.. لأنه لم يرد أن يعرف أحد عنه أي شيء.
حاول “إنليل” أن يعزيه ويتحدث معه، ولكنه أشار له بعدم رغبته في الحديث عن الأمر.. فوجعه أكبر من أن يوصف. اقترح “إنليل” عليه أن يجدا شخصًا من القصر يكون هو حلقة الوصل ويعطياه مقابل اطمئنانه عليها.. ووعده بأن يحاول البحث بهدوء حذر حتى لا يلفت الأنظار.
مرت أيام وكل الأبواب مغلقة أمامهما.. فبعد انتهاء عملهما بالقصر كانا يتوجهان معًا لشخصيات نافذة في القصر.. كانا يبحثان عن شخص يدخل بيت النساء.. ولكن لم يتعامل أحد منهما قبلًا مع “هيجاي”، بل لم يخطر ببالهما أي أمر يخص بيت نساء الملك لأنه منطقة محظورة.
*********
لعدة أيام، لم تنم “هداسا” قريرة العين.. لم تعرف ماذا تفعل.. فلأول مرة تبتعد عن بيتها وأبيها وواضح أنها لن تعود مرة أخرى.
كان صوت بكاء الفتيات ليلًا يغلف الأجواء.. ورغم أنه لم يكن يعوزهم أي شيء هناك إلا أنها كانت تفتقد كل شيء.. حياتها.. أبيها.. العمة “رفقة”.. صديقاتها.. داود و”آساف”.. الأطفال وهي تحكي لهم القصص.. النحت.. الكتابة.. غرفة الكنوز الخاصة بأبيها.. فرستها “كيارا”.. كل شيء. ظلت في صدمة لأيام مثل كثيرات.. ولم يتعجلهن “هيجاي” حارس بيت النساء.. فقد كان يعلم أنه بمرور الوقت ستندمج كل الفتيات استعدادًا للمنافسة الكبرى.
ورغم أنها كانت حبيسة داخل أسوار القصر تحت سلطان الملك المباشر إلا أنها لم تكن وحيدة.. ولم تكن متروكة.. فقد حدثت سلسلة من الأحداث التي أكدت لها أن العناية الإلهية تشملها وكأن وجودها داخل القصر ليس على سبيل الخطأ.. وبدأت يومًا بعد يوم تلمس بنفسها الكلمات التي سمعتها من “مردخاي” حول عناية وأمانة الله وحمايته.. فهدأت نفسيتها واطمأنت أن الكل يخضع لتدابير إلهها القدير.
*********
لأيام كثيرة عاش “مردخاي” في دوامة من الحزن لا يعرف كيف يخرج منها حتى أنه أهمل صلواته التي لم يتركها يومًا، ولم يرغب بالحياة أو حتى بالحديث مع أي إنسان ولم يرغب بالعودة للبيت.. تبدل شكله حتى أنه فقد جزءًا من وزنه مما يدل على فقدانه الشهية للطعام.. كان يقصد أن يقضي وقت أطول في العمل وأن ينشغل بمراجعة كل الوثائق ليعود متأخرًا لبيته متسللًا ليلًا.. فهو لا يريد أن يقابل أحد. ورغم أنه لا ذنب له في هذا الأمر إلا أنه شعر جزئيًا بمسئوليته، فرغم عظمة مركزه كان عاجزًا عن منع ما حدث.
حاولت العمة “رفقة” التطفل عليه بأي حجة، ولكنه كان يصدها بحجة أنه مرهق ويعمل طوال اليوم.. ورغم هذا شملته برعايتها في تجهيز متطلباته اليومية، كما كانت ترفع صلواتها للرب بلجاجة كي يرد نفسه.
حاول “أليعازار” و”شمعون” لقاءه والتحدث معه في أمور عامة، لعله يتخطى أو يتجاوز آلامه الدفينة.. كان يتهرب مرارًا واعتذر منهما كثيرًا.. ورضخ لضغوطهما أحيانًا قليلة، ولكنه ظل صامتًا لا يريد أن يتفاعل مع الأحداث اليومية أو مع محاولاتهما للتخفيف عنه.
*********
انتهى “مردخاي” من عمله متأخرًا كما تعوَّد في الأيام الأخيرة وخرج من باب قاعة الكتبة متوجهًا نحو باب الخيل ليأخذ ما تبقى له من ذكرى حبيبته التي لم ينسها ولو لحظة واحدة.
وفجأة ظهر له شخص بالكاد تمكن من رؤية ملامحه بسبب الظلام.
– سيدي.. سيدي.
– هل تناديني؟
– نعم.. أود أن أسألك بخصوص هذا الفرس.. سمعتُ يومًا قصة عن فرس أصيل يدعى “كيارا”.
تفرس “مردخاي” في الشاب الواقف أمامه الذي يدل شكله على أنه أحد خصيان الملك العاملين في القصر.. وقد تحذر بالرجوع مسافة للخلف.. وهو يسأل نفسه: كيف يعرف اسم الفرس؟
– ماذا تريد؟
– يبدو أنك تعمل هنا.
أجاب “مردخاي” بحذر:
– بالطبع أعمل هنا.. وإلا لما دخلتُ القصر.. ماذا عنك؟
– نعم، أنا أيضًا.. أعمل ببيت النساء واسمي “هتاخ”.
اتسعت حدقتا “مردخاي”.
– ماذا؟.. بيت.. أنا “مردخاي” رئيس القلم الآرامي بكتبة الملك. هل..
قاطعة “هتاخ” بثبات:
– هكذا تأكدت.. معي رسالة من “هداسا”.
ابتلع “مردخاي” ريقه.. فقد ظنه في البداية أنه مستأجر من “شيلاي” لقتله.. ولكن لكنته وطريقته لم تكونا لقاتل.. أمسكه من كتفيه وقال متلهفًا:
– صغيرتي.. قل لي.. كيف هي؟ هل هي بخير؟ هل أصابها مكروه؟ وكيف بقية البنات؟
استوقفه “هتاخ”:
– لا تقلق أبدًا.. هي في أفضل حال هي وجميع البنات.
– ولكن.. كيف لي أن أتأكد أنها هي مَنْ أرسلتك؟
ابتسم “هتاخ” قائلًا:
لقد وصفتك وصفًا دقيقًا ليس مظهرك وطريقة مشيتك فحسب، بل حتى أنها قالت لي إنك ستسألني هذا السؤال لذا أعطتني أمارة.. قالت حينما يسألك لماذا تسأل عن الفرس قل له “لا زال أمامك الكثير من القصص التي ستصنعينها به… أنتِ مَنْ تصنعين قصتك بنفسك. أنتِ التي تقصينها وتعيشينها وأنتِ بطلتها.” كما أنها أرادت الاعتذار عن الفوضى التي صنعتها بحجرة الكنوز.. وأرادت إخبارك أن التفيلين الذي صنعته يوم وُلِدَت كان في حوزتها يوم الحريق ولم يحترق مع بقية الرقوق.
تنفس “مردخاي” الصعداء ورجعت روحه إليه وأشرق وجهه من جديد ولمعت عيناه.. وبدأت دموعه تسيل على وجهه وقد رفعه إلى فوق كأنه يعتذر عن حمقه وبعده عن يهوه خلال هذه الفترة.. إلى أن قاطعة “هتاخ”:
– هل تذكر صادوق بن جيرا من عائلة “شفطيا”.. أتى لبيتك من سنوات طويلة يبحث عن ابنه المفقود.
– آآآه..”يؤاخ” واسم امه كان..
– “يروشا”.