كيف نفهم قصص يسوع وأمثاله في ضوء الحضارة التي كان جزءًا منها.
في فجر عصور الكنيسة، رأى غير المنتمين إليها كيف استطاع المسيحيون أن يستمدوا إيمانهم من الأمثال. كان أحد أولئك جالينوس، طبيب القرن الثاني الأشهر، والذي كان أول وثني يتحدث إيجابيًا عن المسيحيين؛ ففي حوالي عام 140م كتب قائلًا: “إن أكثر الناس لا يمكنهم أن يتابعوا جدلًا منطقيًا على التوالي، ومن ثَمَّ فهم في حاجة إلى الأمثال، وكذا فإنهم يفيدون منها… كما نرى ما يحدث الآن مع الذين يطلق عليهم اسم “المسيحيين”، إذ يستمدون إيمانهم من أمثال (ومعجزات)، مع أنهم في بعض الأحيان يشابهون (المشتغلين بالفلسفة)… وكذلك فإنهم في سعيهم الحقيقي للعدالة قد بلغوا مرتبة ليست أقل شأنًا من مرتبة الفلاسفة.”
وفي قرون لاحقة، أصبحت الأمثال مصدرًا نموذجيًا للحياة المسيحية (أي الأخلاقيات)، ولكن ليس للإيمان (أي اللاهوتيات). فمما يدعو إلى التأمل أن جالينوس، في القرن الثاني، رأى المسيحيين يبنون إيمانهم على تعاليم الأمثال. كيف إذًا فقدت الأمثال مكانتها كمصدر لتعليم الإيمان؟
اعتاد المسيحيون اليوم أن ينظروا إلى شخص يسوع باعتباره ابن الله ومخلص العالم، كما إن العهد الجديد يصوره أيضًا كمثال الكمال في المحبة، وكمُعلِّم مؤثر للبسطاء وذلك بتلاوة القصص والأمثال. ولكن هل نظرنا إلى يسوع كلاهوتي جاد؟
كان يسوع “لاهوتي استعاري”، أي أن أسلوبه الرئيسي في التعبير عن المعنى كان يستند على المجاز والكناية والتشبيه والتصوير بالمثل والفعل الدرامي بدلًا من استعمال الجدل أو المنطق المجرد. فبذا كان يعلِّم كمن يمثِّل المعنى على مسرح الحقيقة، أو كمن يصوره كما يفعل الشاعر، وليس كالفيلسوف.
اللاهوت: منطق ومجاز
أمسى بناء النقاش اللاهوتي في العالم الغربي يستند كلية – في الأغلب – على الأفكار التي تتماسك بواسطة المنطق، وفي مثل هذا الإطار، كان كلما ازداد ذكاء المفكر اللاهوتي، ازداد فكره من طبقات التجريد، مما صعَّب على الإنسان العادي فهم معانيه. بولس – في رسائله – يتعامل مع كل من الأفكار ونماذج المجاز، ومن ثَمَّ جعلنا في الغرب نركز على مفاهيمه بينما تجاهلنا استعماله للمجاز، وبذلك استطعنا وضعه في قوالب لاهوتنا المفاهيمي.
أما يسوع – على العكس – فنظرنا إليه كريفي ساذج يغزل “الحواديت” والحكايات للصيادين والفلاحين. لكن إذا دققنا الفحص بينت لنا أمثاله لاهوتًا صميمًا، وتجلى أمامنا يسوع لاهوتيًا بارعًا. إنه لاهوتي استعاري قبل أن يكون لاهوته منظومًا على المفاهيم.
مَنْ هو اللاهوتي الاستعاري على وجه التحديد؟ تأمل في الآتي: نحن ندرك أن الله روح، وبذا فلا هو ذكر ولا أنثى. ومع ذلك يعلِّمنا الكتاب أن المؤمن “مولود من الله” (1يو3: 9). هنا يستعمل يوحنا لغة المؤنث في وصف علاقة الله بالمؤمنين، كذلك عندما خاطب يسوع الله كأب، استعمل لقبًا استعاريًا في لغة المذكر، ليعيننا على فهم جانب من طبيعة الله. وهكذا يستخدم الوحي صيغتي المذكر والمؤنث ليثري فهمنا لله الذي هو روح، وبالتالي ليس مذكرًا ولا مؤنثًا.
يستطيع المجاز أن يدل على المعنى بما لا يمكن للجدل النظري أن يعبِّر عنه؛ فكما أن الصورة المرئية أقوى في التعبير من ألف كلمة، فإنه يمكن للتصوير والاستعارة والتشبيه إبراز الحقيقة بأكثر سهولة بينما لا تصبح بديلًا لها. وهكذا عندما يستخدم المثل في تفعيل الفكر اللاهوتي لخلق المعنى، فإنه يتحدى المستمع بطرق لا يمكن للنقاش الجدلي للحقيقة أن يبلغ إليها. على أن هذا ذو صلة بذاك، وكلاهما لازم في مجال اللاهوت.
كثيرًا ما يستخدم اللاهوتيون الأمثلة لتوضيح أفكارهم وتفعيل طاقاتها. وصدق مَنْ قال: “إن الأمثلة هي بمثابة السكر الذي تُحلى به حبوب الدواء اللاهوتية!” على أن لغة المجاز – سواء كانت استعارة أو كناية – ليست مجرد مثل توضيحي لفكرة، إنما هي في حد ذاتها نموذج للخطاب اللاهوتي. وهكذا فإن المجاز يتجاوز دور توضيح المعنى، إذ أنه يخلق المعنى. وبالمثل، هو استعارة مجازية مطوَّلة، ومن ثَمَّ فهو ليس بوسيلة مواصلات تحمل الفكرة، بل إنه بمثابة منزل يُدعى إليه القارئ أو المستمع للدخول والإقامة فيه.
المثل يعين القارئ أو السامع على التأمل في الواقع البشري من خلال المنظور الذي يخلقه المثل. من السهل أن تعتبر المثل كالغلاف الخارجي لقذيفة إذا أُطلقت يبقى فارغًا، أي كما لو كانت فائدته الوحيدة هي تفريغ الشحنة التي يحملها في اتجاه الهدف المقصود، فكما لو كان كل المطلوب من المثل أن يُطلق الفكرة، فإذا انطلقت الفكرة انتهت مهمة المثل. ولكن ليست هذه مهمة المثل، لأنه إن كان المثل منزلًا يُدعى المستمع أو القارئ لأن يقيم فيه، فهو يفرض على المستمع أو القارئ النظر إلى العالم من خلال نوافذه. هذه هي الحقيقة التي خلقها يسوع الناصري بالأمثال التي ضربها، وهي حقيقة تنتج عنها مشكلة خاصة.
لو كان اللاهوت مبنيًا على المنطق والحجج الناتجة عن التفكير والاستنتاج وحدها، لأصبح كل المطلوب لفهمه مجرد صفاء الذهن والاجتهاد في التمعن في الفكر، أما إذا كانت القصص والأفعال الدرامية بالنسبة ليسوع هي لغة اللاهوت فعندئذٍ تكون ثقافة القصص ذات أهمية قصوى. لذا فإن المسئولية الموضوعة علينا الآن هي أن نفهم قصص يسوع وأمثاله في ضوء الحضارة التي كان جزءًا منها.
فك أسرار الأمثال:
لكي نفك أسرار الأقوال المجازية التي علَّم بها يسوع، لا بد لنا أن نتصدى لبعض التحديات التي وإن كانت بسيطة فإنها بعيدة الأثر.
وأول ما يجب أن نتحقق منه هو أهمية العمل الذي نحن بصدده. من السهل أن نتجاهل الأسئلة التاريخية، فبالفعل يستطيع أي إنسان أن يقرأ الكتاب المقدس ويتبارك بقراءته، مثلما يستطيع أحدهم أن يسمع مقطوعة موسيقية ويتأثر بها، ولكن الأذن المدربة ستسمع وتتأثر بنفس الموسيقى على مستوى أعمق.
كثيرًا ما توظف حيلة يتم بها تجنب العمل الشاق المطلوب لمحاولة اكتشاف ما كان يسوع يقوله لمستمعيه بالإقرار بأن أمثاله لها “جاذبية جامعة”؛ ففي كل حضارة يوجد آباء محبون وأبناء متمردون وإخوة أكبر معتدون ببرهم الذاتي. والكثيرون -سواء بأسلوب مباشر أو غير مباشر- يفترضون أن مثل الابن الضال ليس بحاجة إلى نظارات حضارية خاصة لتوضيح معالمه، وهذا لأنه مثل ذو جاذبية جامعة (تتخطى حدود أي حضارة محلية). وهذا صحيح، إلى حد ما. ولكن في مجتمعات الشرق الأوسط إذا طلب ابن من أبيه أن يعطيه نصيبه من الميراث بينما لا يزال الوالد على قيد الحياة، كان معنى هذا: “يا أبي، لماذا لا تسرع لتموت؟” وهنا ينتظر من الوالد أن يغضب فيلطم وجه الولد بكفه ثم يطرده من الدار، ولكن شيئًا من هذا لم يحدث في هذا المثل. وفيما نحن ننظر بدقة لأهمية تلك الحبيبات من البصيرة الحضارية، يكشف لنا المثل عن معانٍ جديدة كان يسهل أن تغيب عن أذهاننا.
والتحدي الثاني الذي نواجهه هو أن نتحقق من الطبيعة التاريخية لكلمة الله. إن الكتاب المقدس بالنسبة للمسيحي ليس فقط مجرد كلمة الله، بل إنه كلمة الله التي خاطب بها الإنسان على فم أناس عبر التاريخ. ولا يمكن أن نجهل أولئك الذين تكلم الله بهم دون أن نفقد قصد المتكلم أو الكاتب، وأن نخلق لأنفسنا بدائل أخرى عوضًا عن المقصود أصلًا. إن التفسير التاريخي هو مفتاح الخزانة التي تحتوي على ذهبيات المعاني اللاهوتية، وبدون ذلك المفتاح يصبح الذهب نحاسًا. وما يعيننا على إدراك ذلك هو صحة هذا المبدأ فيما يتعلق بكل أدب ذي شأن.
يتحتم أن تُفسَّر أمثال يسوع في محيط قرينة العالم الذي عاش فيه. عندئذٍ فقط يمكن استيعاب المعنى الذي خلقته الأمثال. ويصير السؤال حينها: “كم من المعنى؟”
أما التحدي الثالث فهو أن تميز المعنى أو المعاني التي يمكن أن تُعزى للأمثال منطقيًا وعن حق؛ فلقد مضت عدة قرون سادت فيها الرمزية كأداة للتفسير، فصار “العجل المسمن” في مثل الابن الضال رمزًا للمسيح لأن العجل ذُبح. ومن خلال الرمزية، تمكن المفسرون من وضع أفكارهم المفضلة حيثما ارتأى لهم، ومن ثَمَّ عمَّت الفوضى وأخيرًا انتصر اللامعنى. ولعل ذلك كان السبب في فقدان الأمثال لقدرتها على أن تكون منبعًا حقيقيًا للإيمان المسيحي، فأصبحت مجرد دليل أخلاقي. ولذا فإن المثل اللاتيني قال: “لاهوت الأمثال هو لاهوت جدلي.”
وكرد الفعل للمبالغات الغريبة التي تمخضت عنها الرمزية، جاء عبر القرن العشرين تيار علمي جديد يدعو إلى أن يكون لكل مثل “نقطة واحدة” (أي درس واحد). كما سمح البعض بأن يحتوي المثل الواحد على أكثر من موضوع، وكان الهدف من ذلك هو حماية التفسير من إضافة معانٍ إلى النص لم تكن لتخطر على بال يسوع أو مستمعيه. أما إذا كان المثل جزءًا من رؤية أشمل للعالم، وإن كان فعلًا بمثابة “المنزل الذي يُدعى المستمع أو القارئ لأن يقيم بداخله”، فإن ساكن ذلك المنزل يستطيع أن يتطلع على العالم من نوافذ مختلفة، لأن المنزل له غرف متعددة. فإن كان ذلك المثل العظيم – مثل الابن الضال – يعلِّم درسًا واحدًا، فماذا عسانا أن نختار؟ هل يختار المفسر موضوع “طبيعة أبوة الله”، أم “مفهومًا عن الخطية”، أم “البر الذاتي الذي يرفض الآخرين”، أم “طبيعة التوبة الحقيقية”، أم “فرح الجماعة”، أم “إيجاد الضائع”؟ كل هذه الموضوعات موجودة في القصة وجميعها تشكل معًا وحدة أسميتها “العنقود اللاهوتي”. وكل جزء من هذا العنقود يتواجد في علاقة خلاقة مع بقية أجزائه؛ ويمكن إدراك معناه بصفة أكمل في إطار بقية العنقود الذي يشكِّله المثل برمته. ولا يجوز لإدراك محتوى هذا العنقود أن يتخطى حدود فهم المستمعين الأصليين لما تفوَّه به يسوع.
تُرى ماذا كانت الأفكار التي جالت في أذهان الفريسيين الذين جلسوا ليتأملوا معًا معنى تعليم المسيح بأحد الأمثال؟ ربما كانت فكرة تعليم المسيح بأحد الأمثال؟ ربما كانت فكرة واحدو أو أكثر؟ إن الموضوعات التي شكَّلت العنقود اللاهوتي للمثل لم يكن لها أن تبرز خارج إطار فهم مستمعيه الأوائل. والسؤال هنا: “هل يلزم أن يطبق هذا المبدأ على نحو صارم؟”
لكل عمل فني شهير حياة قائمة بذاتها. وكل مشاهد يأتي بحياته هو وخبرته إلى لحظة الوقوف أمام ذلك الفن الذي ينظر إليه؛ فالتمثال الذي نحته مايكل أنجلو لموسى النبي يتخطى العالم الذي كان يعيش فيه إيطاليا في القرن السادس عشر، فيتجلى فيه شخص “إنسان الله الغاضب”، ومع ذلك ينبغي أن توجد حدود لما يمكن حقيقةً أن يُرى في قصة ما أيًا كانت.
في إحدى ثقافات جزر المحيط الهادي، يحتفي الناس بمهارة المحتال والمخادع، لهذا يقرأ أهل تلك الثقافة قصة آلام يسوع فيبدو لهم يهوذا البطل الحقيقي للقصة، وعندئذٍ يتحول يسوع إلى الأبله المخدوع. وفي الغرب، وجد بعض المفسرين الماركسية أو الفرودية أو الوجودية في أمثال يسوع، واختار آخرون أن ينظروا إلى الأمثال من خلال عدسة ما بعد الحداثة. لم يكن يمكن لأي من هذه التفاسير أن يخطر على بال يسوع أو مستمعيه الأوائل. ثم إن أي تفسير يأتي به مفسر لا بد من تقييمه في ضوء حياة يسوع وشهادته. إن كان أي ناقد عصري لمقطوعة أدبية يعرض تحليله لها في ضوء حياة المؤلف وخبرته وشهادته، أفلا ينبغي أن يُعامَل يسوع بنفس الطريقة الجيدة؟ إن الالتزام بهذا المبدأ يحفظ المفسر في حلقة “الواقعية الحتمية” التي تحدث عنها ببلاغة المفسر الشهير إن. تي. رايت كنقطة مهمة للبحث في العهد الجديد وتفسيره.
أخيرًا،
وبعبارة بسيطة، إن المطلوب منا هو أن نقف خلف جمع مستمعي يسوع ونصغي لما يقوله لهم، لأننا بهذه الممارسة وحدها نستطيع أن نكتشف ماذا يقول يسوع لكل زمان، بما في ذلك عصرنا نحن؛ فالبساطة الحقيقية يمكنها أن توجد على الجانب الآخر من التعقيد، أي أن تكون بديلًا ناجعًا له. إن منزل لاهوت الأمثال وأخلاقياته ينتظرنا، فليدخل الجميع بشغف الانتظار.
كينيث بيلي