الأنبا باخوميوس مطران من ذهب… كما عرفته عن قرب

14

نشأت أبو الخير

في الثلاثين من مارس 2025 وعن عمر يقارب الـ 90 عامًا وبشيخوخة صالحة، ودّعت الكنيسة القبطية نيافة الحبر الجليل الأنبا باخوميوس، مطران البحيرة ومطروح والخمس مدن الغربية، وداعًا يليق بأحد أعمدة الكنيسة الروحية والتاريخية، نسر البرية وكوكبها المضيء الذي أضاء سماء الكرازة بجليل أعماله وخدمته المثمرة، ودّعته بعد صلوات التجنيز إلى رأسها قداسة البابا في القاهرة ودمنهور حيث مقر إيبارشيتة، وانتهت بالموكب الجنائزي المهيب إلى دير القديس مكاريوس السكندري بجبل القلالي حيث مثواه الأخير الذي احتضن الجسد الطاهر بناءً على وصيته.

حمل بالميلاد اسم سمير خير سكر ونشأ في كنف أسرة مؤمنة تقية فتشبع ببذور الإيمان وترعرع في حياة التقوى التي صاحبته في رحلته على الأرض من شماس في الزقازيق إلى أسقف للبحيرة إلى قائمقام البطريرك إلى شيخ المطارنة وعميد الأساقفة. كلفة البابا كيرلس السادس كشماس مكرس وأسس أول كنيسة قبطية في الخارج سنة 1960 في الكويت، وكان أول أسقف يقوم برسامته البابا شنودة الثالث، وحين رسمه أسقفًا عقب تجليسه بأيام قليلة قال إنه كان ينبغي أن يكون هو البطريرك لولا سنوات رهبنته لم تكن كافية بحسب لائحة انتخاب البابا.

أما البابا تواضروس الثاني والذي ودع أباه الروحي وهو يبكي وقد ارتجف صوته وتبللت عيناه بالدموع فقال: “حبيبي قد نام، الصوت الحكيم في المجمع المقدس خدم أكثر من 75 سنة من شماس إلى أسقف إلى قائمقام إلى شيخ المطارنة.” هكذا كانت كلمات الباباوات الثلاث.

لقد عاصر الأب المتنيح أوقاتًا عصيبة فى تاريخ الكنيسة سنة 2012 أيام تولي الإخوان حكم مصر، حيث تولى نيافته منصب القائمقام البطريرك بعد اعتذار الأنبا ميخائيل مطران أسيوط، فقاد الأنبا باخوميوس الكنيسة في منعطف تاريخي خطير وفي أحلك الأوقات وأصعب الظروف التي مرت بها الكنيسة وعبر بها باقتدار وبمعونة إلهية إلى بر الأمان في تلك الفترة التي أعقبت نياحة البابا شنودة إلى أن تولى البابا تواضروس. وقتها قال الأنبا باخوميوس عبارة شهيرة سجلها التاريخ حيث ضرب نيافتة مثالًا في الاتضاع كأب: “إن كنا قد تسلمنا مسئولية الكنيسة إلى أن نرجع إلى إيبارشيتنا صغارًا تحت قدمي قداسة أبينا الحبيب البابا تواضروس الثاني. أقولها من قلبي إنني سأصير له ابنًا وخادمًا تحت قدميه فنحن في المجمع المقدس نؤمن بالأبوة الروحية.” يا إلهي! أي اتضاع هذا؟ نعم، عاش الأنبا باخوميوس بسيطًا ومات عظيمًا. لقد استطاع هذا الراهب الناسك المجاهد في حياته أن يؤسس إيبارشية كبيرة مترامية الأطراف من لا شيء، فتمت رسامة الكهنة والشمامسة والخدام والمكرسات والرهبان وانتشرت الكنائس وبيوت الخدمات في كل ربوع الإيبارشية. كان يجول يصنع خيرًا كسيده فيتفقد أبناءه في القرى والنجوع في الريف والحضر حتى في المناطق النائية والصحراوية يبحث عن الخروف الضال، كما قام باكتشاف دير القديس مكاريوس السكندري وتأسيسه وتعميره، وقضى أكثر من 50 سنة في الكرازة والخدمة الأمينة والرعاية الباذلة. كان أيقونة حب متجسدة متنقلة وممتدة من جيل إلى جيل، فلا عجب ولا غرو أن يبادله شعبه حبًا بحب، بل أحبوه حتى العشق والهيام في حياته وأن يبكوه حتى النواح في مماته.

إنه القيمة والقامة الكبيرة في تاريخ الكنيسة والوطن والقائد الروحي والكنسي العملاق المقتدر والذي عاصر ستة من الآباء البطاركة (الأنبا يؤانس الـ 19 البابا الـ 113، الأنبا مكاريوس الثالث البابا الـ 114، الأنبا يوساب الثاني البابا الـ 115، الأنبا كيرلس السادس البابا الـ 116، الأنبا شنودة الثالث البابا الـ 117، الأنبا تواضروس الثاني البابا الـ 118 للكرسي السكندري كخلفاء لمار مرقس كاروز الديار المصرية).

اقتربتُ منه كثيرًا وأجريتُ معه الكثير من الحوارات الصحفية وشاركتُ في الكثير من المناسبات والأحداث، وأيضًا حين اشتدت موجة العنف الطائفي ضد المسيحيين وكنتُ المتابع في الإسكندرية والبحيرة ومطروح.

حين تذهب لكرمة مار مرقس لمقابلته يستقبلك حتى يبهرك بقامته المديدة وشخصيته المهيبة وتواضعه الجم، وحين كنتُ أجلس في حضرته يشعرك بالأبوة الحانية. والجلوس إليه له مذاق خاص، يقابلني بابتسامة رقيقة وصدر متسع ووجه يشع نور الإيمان، فرغم المكانة الرفيعة وشخصيته الوقورة إلا أنه قمة في التواضع والبساطة أجد نفسي أمام موسوعة ثقافية وأبوة حانية باذلة يغمرك بمحبة فياضة وكرم الضيافة تشعر معه بالسكينة والطمأنينة تنبثق منه طاقة روحية وإيجابية، متبحر في اللاهوتيات عميق الإيمان صاحب الفكر المفتوح والقلب المفتوح والكرم الفياض. إنه الراهب الناسك الزاهد المجاهد من أجل الكرازة واسم يسوع المسيح. نعم، إنه مطران من ذهب ونسر البرية والبابا الذي لم يحمل رقمًا.

قام بوضع 10 محاور للخدمة: لا يُحرم جائع من طعام – لا يُحرم مريض من علاج – لا تُحرم فتاة من زواج – لا يُحرم معوق من عناية – لا يُحرم طالب من تعليم – لا يُحرم سجين من رعاية – لا يُحرم عاطل من عمل – لا يُحرم مؤمن من إيمان، لا يُحرم خدمة روحية من أن تقام – لا يُحرم إنسان من مأوى

* آخر حواراتي معه كان سنة 2021 في الاحتفال باليوبيل الذهبي لرسامته أسقفًا و50 عامًا على تأسيس إيبارشية البحيرة وتوابعها. طرحتُ عليه سؤالًا من ضمن أسئلتي فقلتُ له: “هل آن الأوان لتفصح لنا عن سر رفضك الترشح للبابوية رغم مطالبة الكثيرين لك في ذلك الوقت ونيافتك أهل لهذا المنصب الرفيع؟” فجاءت إجابته: “هذا عمل كبير ومسئولية كبيرة أمام الرب وأنا غير مستحق لها وأحب أن أكون صغيرًا، بالإضافة إلى أنني أحب شعب إيبارشية البحيرة ومطروح وتوابعها ولا أحب أن أبعد عنهم وأخدمهم طوال أيام حياتي. كل ذلك جعلني أرفض الترشح للبابوية وفوجئتُ أن الشعب يطلق عليّ لقب البابا الذي لم يحمل رقمًا.”

*وفي 14 ديسمبر 2024، كنتُ حاضرًا في الاحتفال بالعيد الـ 53 لرسامته أسقفًا وتأسيس الإيبارشية. وقتها قام بترقية 18 كاهنًا وراهبًا لدرجة القمصية في حضور الأنبا ديمتريوس مطران ملوي وتوابعها. التقيته مقعدًا على كرسي متحرك ويقف بجواره سكرتيره الخاص وخادمه الأمين وابنه الروحي القريب من قلبه الذي لازمه ورافقه طوال 30 عامًا الراهب القمص تادرس السكندري الذي اقترب منه وقال له: “سيدنا، الأستاذ نشأت أبو الخير من وطني من إسكندرية جاي يسلم عليك ويهنئك”، فأمسك بيدي بحنو ولم أكن أعلم أنه اللقاء الأخير لقاء الوداع، ولم أكن أعرف أنه على موعد بعد ثلاث شهور ونصف مع لقاء أفضل وأجل وأجمل لأنه مع المسيح ذاك أفضل جدًا. ففي الثلاثين من مارس، رحل قلب الكنيسة النابض، حكيم زمانه، قديس عصره، خادم أجياله وكنيسته ووطنه بكل أمانة وإخلاص، وتساءلتُ: هل النجم الساطع في سماء الكنيسة والوطن قد هوى؟ هل عمود الكنيسة الذهبي قد مضى؟ أنسر البرية المغرد رحل؟ لا وألف لا. إنه باق معنا بروحه وأعماله وثماره، وسيظل منارة طوال السنين وكوكب البرية المنير. وها هي قد كملت أيام خدمته فمضى إلى بيته السماوي، فانطلق إلى المجد مكللًا بأكاليل المجد والجهاد والظفر وعلى سحاب المجد يشدو بلحن الظفر فيسمع صوتًا من السماء: “نعمًا أيها العبد الصالح والأمين كنت أمينًا في القليل أقيمك على الكثير ادخل فرح سيدك.” قد جاهدت الجهاد الحسن أكملت السعي حفظت الإيمان وأخيرًا وضع لك إكليل البر.

أيها التاريخ، لتقف بكل خشوع واقتدار وترفع هامتك في زهو وفخار وتفتح سجلاتك بكل تقدير ووقار وتتحرك يمناك بعزة وافتخار لتسجل بأحرف من نور ومداد من ذهب ورائحة من الناردين اسم الأنبا باخوميوس العظيم في المطارنة والأساقفة أحد مطارنة الكنيسة العظام وتسجل في سجل الخلود والأخدار السماوية اسم البابا الذي لم يحمل رقم الأنبا باخوميوس (1935 – 2025 م).

* سيدنا الحبيب، لن أقول وداعًا بل إلى لقاء ارقد بسلام، سلامًا لروحك أيها الراهب الناسك المجاهد الكارز.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا